الصباح اليمني_مساحة حرة|
منذُ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 شباط 2022، وكلٍّ من أمريكا وروسيا، يتسابقان لِكسبِ كلٍّ منهما دعمِ وتأييد أكبر ما يمكن من دول العالم إلى جانبهِ سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا.. في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية..
العرب كانوا موضع مُنافسة شديدة بين الطرفين نظرا لِموقع المنطقة العربية القريبة من أوروبا ومن روسيا، وما تمتلكه من الثروات الباطنية، النفط والغاز، وحاجة أوروبا وأمريكا لذلك للتعويض عن الغاز والنفط الروسي.. إذ تزداد قناعة أوروبا كل يوم أكثر بضرورة الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية نهائيا.. لاسيما بعد أن تقلّص توريد الغاز إلى أوروبا إلى 20% من طاقة خط نورد ستريم 1، بدءاً من الأربعاء 27/ 7 / 2022، لأسباب فنية وبحجة اعطال في التوربينات، حسب الرواية الروسية التي لم يُصدِّقها الغرب..
**
أوروبا قد تكون أمام أزمة غاز لبعض الزمن، ولكنها تبحث عن البديل في كل مكان، وسوف يتوفر لها ذلك أخيرا..
فقد وقّعت المفوضية الأوروبية مذكرة تفاهُم مؤخرا مع أذربيجان لاستيراد الغاز الأذري..
كما تسعى كازاخستان في تنويع أسواق تصدير النفط، ليصل إلى أوروبا، إلّا أنّ موسكو وضعت عراقيل أمام ذلك، إذ أنه يُنقَل عبر أنابيب بحر قزوين التي تشترك فيها كازاخستان وروسيا.. ومن ثمّ إلى محطة بحرية بالقرب من ميناء “نوفوروسيك” الروسي، حيث يتمُّ تحميله بالناقلات للأسواق العالمية.. ولكن كازاخستان لديها الرغبة في ذلك.. وقد تجدُ سبُلا لتصدير نفطها بعيدا عن الضغوط الروسية.. وهي بعكس ما كان مُتوقّعا من انحيازها لروسيا في أوكرانيا، فقد حرصت على النأي بالنفس والوقوف على الحياد..
**
كما يجري الحديث جدّيا لدى الأوروبيين عن إحياء مشروع خط أنابيب الغاز (ميد كات) من إسبانيا إلى جنوب فرنسا.. وهذا المشروع كان قد توقف عام 2019 ، لأنه لم يكُن ذي جدوى اقتصادية حينها، أما اليوم فقد اختلف الأمر.. وتعتمد إسبانيا في 40 % من الغاز على الجزائر، ويمكن أن تكون الجزائر، بديلا عن الغاز الروسي لأوروبا..
**
وكان قد سبق للاتحاد الأوربي أن وقّع في أواسط حزيران 2022 مذكرة تفاهم مع مصر وإسرائيل لاستيراد الغاز.. وذلك تحت مظلة ما يُعرَفُ بمنتدى غاز شرق المتوسط..
وهذا سيسمح بتصدير الغاز الإسرائيلي عبر مصر..
**
كما يسعى الاتحاد الأوروبي لزيادة استيراد الغاز المُسال من نيجيريا..
بل يجري التسريع بمشروع مد خط أنابيب عبر البحر من نيجيريا إلى المغرب بطول سبعة آلاف كيلومتر، ثم إلى أوروبا..
**
وفي ظل المساعي الأوروبية في كل اتجاه، أعلنت هولندا وألمانيا عن مشروع مشترك للتنقيب عن مزيد من حقول النفط في بحر الشمال..
**
بالنتيجة سوف يتمكن الأوروبيون، عاجلا أم آجلا، بتأمين البديل عن الغاز والنفط الروسيين، وحتى يتحقق ذلك لا بُدّ من الكثير من الصعوبات، وبعدها ستعاني روسيا من وجود أسواق كافية لاستيعاب نفطها وغازها، وهذا سوف يؤثِّرُ على اقتصادها..
**
الاتحاد الأوروبي يتّهم روسيا باستخدام الغاز كسلاح سياسي، ولكن أوروبا ذاتها هي من استخدمت أيضا الغاز كسلاح سياسي، حينما قرّرت تقليل الاعتماد على الغاز الروسي رويدا رويدا، حتى يتمّ الاستغناء عن ذلك بالكامل لاحقا، وذلك في إطار العقوبات الأوروبية، والهادفة إلى إجبار روسيا لوقف الحرب والانسحاب من أوكرانيا..
**
في ظل هذا التنافُس الشديد، بين الغرب وروسيا، فإن هذا سوف يُعطي دورا للدول الأخرى من عالَم الجنوب، لِتشعُر بأهميتها والحاجة لها..
فحينما يتّفق الكبار، يأكلون الصغار، ولكن إن اختلف الكبار، فعلى الصغار أن يعرفوا كيف يستغلون ذلك لأجل مصالهم، لاسيما أننا في عالمٍ لا يستحي فيه أحدا حينما يتعلق الأمر بمصالحهِ ومصالح بلاده..
جاء الرئيس الأمريكي بنفسهِ إلى السعودية في أواسط تموز/ يوليو 2022 ، واجتمعَ في جدّة مع قيادات المنطقة، وانعقدَ مؤتمرا للأمن والتنمية، واصدروا بيانا مُشتَركا يُشكِّلُ خارطة طريق للعلاقة بين الولايات المتحدة وهذه الدول..
**
بعدها بأيامٍ اتّصل الرئيس الروسي بوتين مع ولي العهد السعودي، كي يجسَّ النبض ويعرف إلى أي مدى أثّرت زيارة بايدن بعلاقات المملكة مع روسيا..
**
وقبل زيارة بايدن للمملكة، كان وزير الخارجية الروسي لافروف، قد زار الرياض في أواخر أيار 2022 والتقى وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، بينما كانوا يعقدون الدورة 152 للمجلس الوزاري الخليجي، وذلك للاطمئنان أنهم سيبقون ملتزمين باتفاق (أوبك بلس+) وأن لا يستجيبوا للضغوط الأمريكية برفع سقف الإنتاج..
واتفاق (أوبك بلس+) هو اتفاق يضمُّ 23 دولة مُنتجة للنفط، بينها روسيا، إضافة إلى 13 دولة عضوا في منظمة أوبك.. ويهدفُ إلى خفض الإنتاج لتحسين أسعار النفط العالمية..
**
أيامٍ على مغادرة بايدن للمنطقة، وصل إلى القاهرة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 23 تموز / يوليو 2022 والتقى الرئيس السيسي، وأجرى مباحثات مع نظيرهِ المصري، وزار أمين عام الجامعة العربية.. وألقى كلمة أمام مجلس الجامعة على مستوى السفراء المندوبين ليشرح الأوضاع والتطورات من وجهة نظر روسيا.. وهذا بمثابةِ ردٍّ على اجتماع بايدن مع زعماء المنطقة والتحدُّث معهم من وجهة نظر الولايات المتحدة..
ثم أكملَ نحو إثيوبيا وأوغندة والكونغو الديمقراطية..
وبموازاة ذلك، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ما كرون بزيارة إلى عدّة دول افريقية، ما بين 25 و 28 تموز/يوليو 2022 ، وهي الكاميرون، ذات الوزن المهم في وسط أفريقيا، وجمهورية بينين، وغينيا بيساو، والبحث في تجديد الشراكات العسكرية في أفريقيا، وأزمة الغذاء الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وقضايا الإنتاج الزراعي والمسائل الأمنية..
**
طبعا في كل هذه الجولات للمسؤولين الرُوس والغربيين، يسعى كلٍّ منهم أن يُقنِع الرأي العام، أنهُ ليس هو المسؤول عن أزمة الغذاء العالمية وإنما الطرف الآخر..
فروسيا تقول أن الغرب هو المسؤول بسبب العقوبات، والغرب يقول أن روسيا هي المسؤولة لأنها تمنع تصدير الحبوب الأوكرانية عبر مرافئ أوكرانيا على البحر الأسود..
للأسف إنها كما قصص الأولاد في قاعات الدّرس الابتدائية.. كل تلميذ يقول لستُ أنا المسؤول عن هذا الفعل الشنيع، إنهُ فلان..
**
بكل الأحوال، مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ.. صراعات الغرب وروسيا، جعلتهم يتسابقون نحو الدول العربية والأفريقية (وهذا ليس حُبّا بهم) وكلٍّ يتودّدُ ويُذكِّرُ بعلاقات بلادهِ التاريخية، مع هذه الدولة أو تلك، ولولا الحرب والسعي للاستقطاب لما كان كل هذا الاهتمام والتودُّد..
**
والمفارقة أن روسيا وأمريكا تتنافسان وتختلفان في كل مكان بهذا العالم، ولكن تتفقان بالمُطلق حينما يتعلق الأمر بإسرائيل، وكلٍّ منهما يُزايدُ على الآخر بحرصهِ وغيرتهِ على إسرائيل وأمن إسرائيل.. رغم أن بوتين منزعج في هذا الزمن من انحياز إسرائيل لجانب الناتو، وربما لم يكُن يتوقّع ذلك، وكردِّ فعلٍ قام بحلِّ فرع (الوكالة اليهودية للهجرة) في روسيا، والتي تتعاملُ بشكلٍ أساسٍ مع الهجرة إلى إسرائيل.. ودعم الروابط مع يهود شتات العالم.. ولكن متى جاء ذلك؟. بعد هجرة مليون روسي يهودي إلى فلسطين المُحتلّة..
**
نعود لعنوان الموضوع، هل عرف العرب كيف يستغلون هذا الصراع الروسي الغربي لصالح قضية فلسطين؟.
الجواب كلّا..
إنها فرصة تاريخية ولكن العرب لم يعرفوا كيف يستفيدوا منها، بانتزاع اعتراف واضح وخطِّي ومكتوب وبموجب وثائق رسمية (بيانات وغيرها) تتعهدُ فيها روسيا وأمريكا، بالالتزام التزاما مُطلقا لا لُبس فيه بالمبادرة العربية للسلام، وعدم الاعتراف على أي حل لا يستند إلى ذلك.. والضغط على إسرائيل لتنفيذ بنود تلك المبادرة، ووقف كل الإجراءات والممارسات الإسرائيلية التي لا تنسجم مع جوهر وروح تلك المبادرة.. ورفض الاعتراف بها كأمر واقع.. وتبنّي تلك المبادرة بقرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي تتبناهُ كلٍّ من روسيا وأمريكا، والدول الأخرى دائمة العضوية.. وأنه لا يمكن قبول حل للقضية الفلسطينية إلا بموجب ذلك..
فرصة تاريخية للعرب.. ولكن للأسف بعض العرب لم يعتبروا إسرائيل في أي يومٍ عدوا لهم.. وكل بلد عربي يبحث عمّا يمكن أن يستفيدهُ هو من الصراع الروسي الغربي، وليس فلسطين، او الجولان..
* كاتب سوري ودبلوماسي سابق
خليك معناالمصدر: صحيفة رأي اليوم