يتساءل كثيرون في العالم العربي هل هناك في الأزمة الخليجية بين قطر و”شقيقاتها” طرف ظالم وآخر مظلوم، طرف على حق وآخر على باطل؟ وهل أن مفاتيح حل الأزمة موجودة بأيدي القيادة القطرية أم بأيدي القيادة السعودية التي كانت البادئة بمقاطعة قطر ومحاصرتها في انتظار ما سيأتي…أم أن لا الدوحة ولا الرياض ولا أبو ظبي ولا المنامة والقاهرة تملك مفاتيح حل الأزمة لأنها بكل بساطة محفوظة في إحدى خزائن البيت الأبيض بواشنطن؟
الإجابة على هذا السؤال تكتسي أهمية جوهرية من أجل فهم مستجدات الأزمة الحالية ومسبباتها بين دول الخليج واستقراء الحلول السياسية المحتملة التي تساعد على حفظ ماء وجه أطراف النزاع، حتى وإن فشلت في معالجة مسبباتها القائمة منذ عام 1995 ولعل أهمها:
1- أن الدول الخليجية، قطر والإمارات والكويت والبحرين وعمان، كانت منذ عام 1990 تعيش تحت وقع تبعات الحرب العراقية الأيرانية وصدمة الإجتياح العراقي للكويت وحرب عاصفة الصحراء التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير الإمارة، فسلمت تلك الدول ذات القدرات العسكرية المحدودة، إدارة السياسات الإقليمية بيد شقيقتها الكبرى، وبقيت قطر جزءا من المحور الخليجي الجديد بقيادة السعودية حتى عام1995، حين قام الأمير السابق ووالد الأميرالحالي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، بانقلاب أبيض على والده.
ورغم أن السعودية وحليفاتها بمجلس التعاون رتبت بالتنسيق مع مصرعام 1996 محاولة انقلابية لإعادة الشيخ خليفة بن حمد إلى حكم الإمارة، إلا أن المحاولة باءت بالفشل. في الأثناء، بسط الأمير الجديد سلطانه وانتهج سياسات جسورة مكنته في ظرف سنوات وجيزة من إحداث تغييرات جذرية في السياسات القطرية. لكن الأمور لم تَرُقْ للمملكة التي اعتبرت أن قطر تغرد خارج السرب وخرجت عن بيت الطاعة.
ومنذ ذلك التاريخ، اتسمت العلاقات بين الدوحة والرياض بهدنة مصطنعة وساد الحذر وانعدام الثقة تلك العلاقات.
2- وعلى إثر أحداث سبتمبر 2001، ابتدع المحافظون الجدد الذين تمكنوا من بسط هيمنتهم على دواليب السياسة الخارجية الأمريكية ومفاصلها، سيما تجاه منطقة الشرق الأوسط، نظرية تعتبر أن الدول العربية الكبرى وعلى رأسها مصر والسعودية والعراق وسوريا واليمن… قد فشلت في مواكبة العولمة التي جاءت بها نهاية الحرب الباردة وفي ضمان استقرار بلدانها، بما بات يهدد المصالح العليا الأمريكية.
وتدعو تلك النظرية إلى ضرورة وضع الولايات المتحدة ثقلها الإستراتيجي من أجل “إخراج القرار العربي من دول المحور إلى دول الطرف”، أي يجب أن تعمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في إطار ما أسمته آنذاك مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس “الفوضى الخلاقة” أو “الشرق الأوسط الجديد”، على عزل الدول العربية الكبرى وتفكيكها وانتزاع القرار من أيديها لصالح دول صغيرة بعضها يملك احتياطيا ضخما من موارد الطاقة مثل قطر والإمارات، دون أن يكون لها اي ثقل سكاني أو عسكري.
ولو ألقينا نظرة خاطفة على خارطة المنطقة العربية، سوف لن نحتاج إلى التمعن كثيرا لنتبين أن هذه الرؤية الأمريكية قد تجسدت فعلا، وساهمت أطراف عربية عدة من بينها دول الخليج في تجسيدها على أرض الواقع، وأن من بين الدول المذكورة أعلاه، لم تبق إلا المملكة العربية السعودية محافِظة على بعض تماسكها، بينما تمت إعادة العراق وسوريا واليمن إلى “عصر ما قبل الصناعة”، في حين بقيت مصر تتأرجح بين الدولة الفاشلة والدكتاتورية العسكرية العقيمة.
أما القرار العربي، فإنه تلاشى واندثر، إذ لا تملك اليوم أي دولة عربية السيادة على قرارها ولا حتى قرار الدفاع عن سيادتها. لكن القول إن قطر والأمارات أخذت مكان مصر وسوريا والعراق والسعودية هو محض هراء وافتراء!
صحيح أن الدوحة وأبوظبي تحولتا إلى “قوتيْن” اقليميتين فاعلتين، لكن نفوذهما الإستراتيجي يمتد أوينحسر بامتداد أو انكفاء “دبلوماسية دفتر الشيكات” التي انتهجها البلدان سيما منذ اندلاع “ثورات الربيع العربي” ودخول الدوحة وأبوظبي في منافسة محمومة بسبب الإسلام السياسي.
3- لم يكن أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة في حاجة إلى نظرية “إخراج القرار العربي من دول المحور إلى دول الطرف”، ولم ينتظر طويلا بعد الإطاحة بوالده عام 1995 ليعلن للعالم أن طموحات الريادة السياسية لا تقاس بمساحة الدول ولا بعدد سكانها ولا حتى بعدد الدبابات والصواريخ التي تملكها، وأنه كحاكم جديد لدولة قطر، مصمم بكل ما يُعرَفُ عنه من إصرار وعناد، وبكل ما سيتوفر له من إمكانيات مالية ضخمة وتحالفات دولية واقليمية وثيقة، على وضع قطر على خارطة العالم وسحب البساط من تحت أقدام الدول العربية “الكبرى” التي هيمنت على المشهد العربي وآلت به إلى إخفاقات متتالية في كل المجالات.
وقد سخَّر الأمير الجديد امكانات مالية طائلة عام 1996 لأطلاق قناة فضائية إخبارية وظفها لتكون ذراعا إعلاميا للسياسة الخارجية القطرية، فأحدثت قناة الجزيرة زلزالا في المشهد الإعلامي العربي بكسرها كل القيود والخطوط الحمراء المعهودة في وسائل الإعلام العربية، مما أثار لسنوات سخط السعودية وعدة دول أخرى وعلى رأسها مصر.
على الصعيد السياسي، انتهج الشيخ حمد بن خليفة سياسات جريئة لا تخلُ من مجازفة بالنسبة لدولة في حجم قطر. لكنه نجح في توظيف الظروف الإقليمية غير المستقرة لتثبيت موقع بلاده على الساحتين الإقليمية والدولية، فانسلّت الدوحة من الجلباب السعودي وبدأت تضع سياستها الخارجية المستقلة الخاصة بها، وباتت ترفع صوتها عاليا ضد الوصاية السعودية على مجلس التعاون.
وخلال ال 18 عاما من حكمه، شهد الأقتصاد القطري، بفضل عائداته المالية الهائلة، نموا مطردا جعله من أكثر الاقتصاديات قدرة تنافسية في العالـم، وقد وضعت السلطـــات القطــرية “رؤية قطـر 2030″ لتكون بمثابة خريطة طريق للتنمية الإقتصادية والبشرية من أجل تنويع مصادر الدخل وتطوير قطاعات التعليم والصحة والخدمات والرياضة، والتوسع في الاستثمارات الخارجية من خلال جهاز قطر للاستثمار، وهو الصندوق السيادي الذي تفوق أصوله اليوم 300 مليار دولار.
ويشهد القاصي والداني أن الشيخ حمد بن خليفة حقق لبلاده في سنوات قليلة نجاحات وإنجازات لم يسبقه لها أحدٌ في قطر أو في المنطقة، باستثناء دولة الإمارات، حيث أصبحت قطر في عهده صاحبة أعلى دخل فردي في العالم مقارنة بعدد السكان، إلى جانب امتلاكها مؤسسات مزدهرة وبنية تحتية متكاملة.
4- غير أن السياسات الجسورة التي انتهجتها دولة قطر بقيادة الشيخ حمد بن خليفة لم تخْلُ من تناقضات مثيرة للأستغراب والتساءل ومن خيارات تبين لاحقا أنها غير صائبة وعواقبها لم تكن محمودة على البلاد، حتى أن أقرب أصدقاء قطر كانوا أحيانا يتساءلون عن حقيقة الأهداف التي تتطلع الدوحة إلى تحقيقها من وراء خياراتها الغريبة وسياساتها المتناقضة وغير المفهومة.
فعلى صعيد السياسة الداخلية، وعلى الرغم من أن قطر كانت سباقة إلى تأييد “ثورات الربيع العربي” وشجعت بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة لها إسقاط أنظمة بن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح، فإن الحياة السياسية في الداخل القطري بقيت في عهد الشيخ حمد تتسم بالركود والرتابة وظل نظام الحكم القطري متمسكا بالممارسات السياسية البالية في كتم الأصوات المعارضة للسلطة، وذلك رغم أن الناخبين القطريين صوتوا منذ عام 2003 في استفتاء شعبي على وضع دستور دائم لبلدهم ينص على إجراء انتخابات تشريعية لمجلس الشورى وتعزيز المشاركة الشعبية، لكن القطريين مازالوا ينتظرون إجراء تلك الإنتخابات، ولا أحد في قطر قادر على إيجاد مبررات منطقية لهذا الإنتظار المتواصل منذ 14 عاما.
ورغم أن الشيخ حمد كان يرى في نفسه امتدادا خليجيا للزعيم القومي جمال عبد الناصر، وظل حتى تنازله عن الحكم لفائدة نجله تميم عام 2013 صديقا مناصرا للزعيم الكوبي فيدال كاسترو وللزعيم الفنزويلي هوغو شافيز والعديد من حركات التحرر المناهضة للإستعمار في العالم…فإن الدوحة استضافت في عهده على أراضيها القيادة المركزية للجيش الأمريكي وأكبر قاعدة جوية أمريكية خارج الولايات المتحدة، انطلقت منها آلاف الطلعات الجوية لتدميرالعراق وليبيا…
كما أن لا أحد يعلم ماهية الأسباب الكامنة وراء تحول الدوحة المفاجئ منذ عام 2005 من “حصنٍ قومي” إلى”قلعة – إسلامية – سرورية” حتى أصبح أسم قطر مرتبطا بحركات مناهضة للحضارة ولكل القيم الإنسانية، وما الذي جعل قناة الجزيرة العربية التي تميزت في سنواتها الأولى بحرفيتها وجرأة طرحها، رغم عدم خوضها في الشأن القطري إلا ما ندر، تصبح بين عشية وضحاها صوتا لتيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها اليوم حركة الأخوان المسلمين؟
وقبل خصومها وأعداءها، يتساءل اليوم أصدقاءُ قطر لفائدة من تعمل الدوحة؟ ألمصلحتها الوطنية أم لمصلحة غيرها؟ ولماذا تخاطر بالمكتسبات التي حققتها خلال السنوات الماضية؟ ولماذا تجازف بموقعها على الساحة الأقليمية والدولية؟ ولماذا تراهن بكل ما أوتيت من وسائل وامكانيات وامتداد “أخطبوطي” في الإعلام ونسج العلاقات، على التيارات الإسلامية، وهي تعلم جيدا أن ولاءاتهم مشبوهة وسياساتهم فاشلة وخياراتهم لا يمكن أن تنهض بالعالم العربي وتُخرجه من الثقب الأسود؟ لقد كانت قطر شاهدا على فشل الإسلاميين في تونس ومصر وليبيا وسوريا… لكنها أصرّت على تأييدهم وتوظيفهم لخدمة حساباتها دون اعتبار للأضرار الفادحة التي ألحقتها تلك التيارات بالدول والمجتمعات العربية.
نعم، من المكابرة والرياء القول إن قطر لم تُخطئ في بعض خياراتها وحساباتها، أو أنها لم تنتهج مسالك وعرة ما كانت في حاجة إلى اتّباعِها. وإن لم تستفد الدوحة من الأزمة الحالية لمراجعة سياستها وبعض خياراتها وحساباتها، فإن العواقب قد تكون وخيمة، عليها وعلى المنطقة برمتها.
لكن رغم ذلك، هل قطر وحدها أخطأت؟ وهل العيب في الدوحة دون غيرها؟ وهل حكّام قطر أكثر تآمرٍ ومداهنة وازدواجية في القول والفعل من نظيراتها السعودية والخليجية والعربية؟
فلنفترض جدلا أن السعوديين والعرب سيتَجَرَّأون يوما على المطالبة بمحاسبة نظام الحكم في المملكة العربية السعودية على خطاياه وولاءه الأعمى وغير المشروط للولايات المتحدة وعلى السياسات التي انتهجها منذ السبعينات تجاه العديد من القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين؟ ما الذي سنكتشفه يومها ويتبين لنا من تلك المحاسبة؟ أوليست السعودية من زرع على مدى سنين بذور الإنشقاق والفتنة في أرجاء العالم العربي بدعمها الحركات والتيارات الموالية للتشدد؟ بنات من تلك التنظيمات المتطرفة التي روعت السعوديين قبل غيرهم؟ ألم تولد من رحم الفكر المتشدد والمنحرف والفشل الحضاري في مواكبة الحداثة وقبول الإختلاف؟
قد لا تكون هناك حاجة لمثل تلك المحاسبة التاريخية، إذ يكفي اليوم فتح ملف واحد هو ملف الحرب القذرة والغبية ضد الشعب اليمني الأعزل، وسوف نرى عندئذ أن نظام الحكم في المملكة العربية السعودية سينقاد دون عناء كبيرإلى محاكمة دولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية…وهي تهم لا تقل خطورة وفظاعة عن التهم التي توجهها اليوم السعودية وحلفاءها إلى حكام قطر. والتاريخ هو الكفيل بتحديد الظالم والمظلوم.. وسيحاسب الجميع.