تلجأ الامم الحديثة الى الديمقراطية المعاصرة لتبنى منظومتها السياسية على أسس القانون والدستور. دولة القانون والدستور, الذى أصبح عنواناً ورمزاً للدولة الحديثة.
لم تأت الديمقراطية بلا مضمون, بل ان مضمونها التاريخى فى حقوق الانسان فى العصر الحديث. الديمقراطية وحقوق الانسان يمثلان جدلية الحداثة, فلا تقوم احدهما دون الاخرى.
تنطلق الامم الحديثة من حق الانسان فى تحقيق جوهره الانسانى مثل العيش بكرامة وحرية وعدالة وتقرير مصيره فى عمله وحياته. الديمقراطية هى النظام المجتمعى الذى يحمى, ويصون ويُطَوّرْ هذه الحقوق. تنعكس الديمقراطية على حقوق الانسان التى بدورها تنعكس على الديمقراطية أيضاً, وتؤثر فى مسارها.
عندما تعجز الديمقراطية عن الارتقاء الى مستوى حقوق الانسان, تَنْحَل الديمقراطية الى أيديولوجيا لتشويه جوهر الانسان, أو تلجأ الى استراتيجيات عنفية للالتفاف على عجزها.
أثبت تاريخ الاستعمار الحديث, أن الديمقراطيات الغربية عندما أرادت أن تَفِىِ بعودها للمواطن الغربى, وعجزت عن ذلك بسبب الازمات الاقتصادية والصراعات, لجأت الى استعمار حقوق الانسان الآخر (العربى والافريقى وفى أميركا اللاتينية), وتسخيره, أو تجيير حقوقه لخدمة حقوق الانسان الغربى.
انشاء الكيات الصهيونى أحد تمثلات الديمقراطية الغربية, التى سبقها استعمار للوطن العربى والعالم أجمع.
أُنْشِأَ الكيان الصهيونى الاستعمارى على أسس الديمقراطية الغربية الليبرالية الحديثة. لم ينشأ هذا الكيان الا بعد أن تم تحديد وتعريف والاتفاق على المسائل الحقوقية “لليهود”: “لليهود حق تاريخى فى وطن قومى فى فلسطين…وأن دولة اسرائيل من النيل الى الفرات,…,أن اليهود شعب الله المختار….الخ”. هذه أركان الديمقراطية الصهيوينة, التى أساسها قاعدة حقوقية متفق عليها.
فلو أخذنا المحطات التاريخية الثلاث: نشوء الدولة الاوروبية الحديثة منذ القرن السابع عشر, فترة الاستعمار الامبريالى منذ القرن التاسع عشر ولاحقاً الحروب العالمية, ومشروع انشاء دولة الاحتلال الصهيونى على أرض فلسطين منذ المؤتمر الصهيونى فى بازل سويسرا, سنجد أن نقطة الانطلاق هى المسألة الحقوقية للانسان الغربى فى النموذج الاوروبى, والصهيونى فى نموذج دولة الاحتلال.
يضعنا هذا أمام سؤال, هل نريد نظام ديمقراطى عربى قبل أن نحدد ونتفق على حقوقنا السياسية والاقتصادية والثقافية العربية, سواء فى الاطار الفردى أو الجماعى؟
أجد أن المشروع الديمقراطى العربى الحديث يعيش فترة خواء حقوقى أو فى حقوق الانسان. لم تُعْطى حقوق الانسان العربى والفلسطينى أهمية جوهرية فى صياغة المشروع الديمقراطى العربى. التشدق “بالديمقراطية أولاً” من حيث أنها هى التى ستحقق للانسان حقوقه, يشكل مفارقة تاريخية.
فاذا لم يكن هناك منظومة حقوق عربية-عربية, وتشريع حقوقى انسانى للعرب, يخرج كوثيقة, يصبح مرجعية للمشروع الديمقراطى العربى الحديث, أو مضمونه, سيستمر مسلسل الديمقراطية العربية الجوفاء من أى مضمون انسانى. وتَنْحَلْ الى مٌجَرَد محاكاة ببغائية لادبيات وشكلانيات الغرب الاستعمارى.
تتدرج مسائل الحقوق الى درجات راديكالية, ويرتبط ذلك التدرج بتنوع وتدرج الرؤى الفكرية والعقائدية.
اليسار والقوميون يريدون حقوق الانسان من منطلق المجتمع المنتج المستقل وغير التبعى للاستعمار بكافة أشكاله, أساسها مواطن التحرر الوطنى الضامن لتحقيق ديمقراطية راديكالية أو ثورية. والليبراليون العرب, فى العموم, ينطلقون فى الديمقراطية من باب دولة القانون والدستور, التى أساسها المواطنة أو المواطن المدنى لتحقيق ديمقراطية مدنية تقوم على اقتصاد السوق الليبرالى. والاسلاميون الذين على وئام ووفاق شبه كلى مع الليبراليون العرب فى الحقل الاقتصادى والسياسى, الى حد كبير, الا أن خلافهم ينبع من الحقل الثقافى الذى يجد فى المواطن الدينى, المؤمن “الشرعى”, قاعدة انطلاق لتحقيق الدولة الاسلامية الحديثة.
ليس منطقياًّ أن نحصر سؤال المستقبل فى اطار الحُكم والادوات, وهو ما يسيطر على مناهج وبرامج تفكير المثقف العربى. بدون سؤال الحقوق العربية للانسان العربى المعاصر, سنبقى فى مرحلة التكرار المُمِلْ والمُبْتَذَلْ؟
الاجابة على هذا السؤوال تتطلب سؤلاً استدراكياًّ آخر: هل نريد أن نحدد كيف نَحْكُمْ أم كيف نعيش معاً؟ تتحدد اجابة السؤال الاول فى اطار الفلسفة السياسة: كيف نحكم وماهو نموذج الحكم؟ والسؤال الثانى يقع فى اطار الاقتصاد السياسى والذى يهتم فى كيف يعيش الناس فيا بينهم.
لا نستطيع الفصل بين الاثنين, ولكنه سؤال الاساس والمنطلق. مثلاً: هل نريد ديمقراطية تتعايش مع الصهيوينة, أم ديمقراطية بلا صهيونية؟ الاولى قد تجد فى انشاء منظومة حكم ديمقراطى “الديمقراطية أولاً” ملاذا لها, وبالتالى الفلسفة السياسية مرجعاً فكريا ومنطلقاً, والثانية سوف تجد فى الحقوق الوطنية والقومية منطلقاً وملاذا لها وبالتالى الاقتصاد السياسى مرجعاً ومنطلقاً.