بقلم: خيرالله خيرالله
ثمة حاجة، بين وقت وآخر، لبعض الجدّية في معالجة الموضوع اليمني، لا لشيء سوى أنه ليس في الإمكان بناء شيء على لا شيء. أكثر من ذلك، ان حياة ملايين اليمنيين باتت مهدّدة بسبب الفقر والجوع وانتشار الأوبئة في بلد توقفت فيه كلّ الخدمات ولم تعد فيه سلطة مركزية منذ فترة طويلة. لا حاجة إلى إعادة نشر الأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية المحترمة في هذا المجال. هذه الأرقام المخيفة التي تتحدّث عن المأساة اليمنية، بما في ذلك موت الأطفال، خير شاهد على وضع لا يحتمل لا مكان فيه للحسابات الصغيرة.
بكلام أوضح، لا يمكن البناء على شرعية تتصرّف وكأن شيئاً لم يحصل في اليمن منذ العام 2011 وأنّ كلّ ما في الامر هو حلول عبد ربّه منصور هادي رئيساً للجمهورية مكان علي عبدالله صالح تنفيذاً للمبادرة الخليجية التي سعت بصدق إلى اخراج اليمن من محنته.
قبل كلّ شيء، عبد ربّه منصور هادي كان مفترضاً ألا يستمر وجوده في موقعه أكثر من سنتين، وذلك بعد توليه الرئاسة في فبراير 2012. بغض النظر عن كلّ الأخطاء التي ارتكبها علي صالح، خصوصا في مرحلة ما بعد انتصاره في حرب الانفصال صيف العام 1994. وهذه أخطاء ليس مسؤولا عنها وحده، بل هناك مسؤولية تقع أيضا على شركائه في ذلك «الانتصار». على رأس هؤلاء الشركاء يأتي الفريق علي محسن صالح نائب رئيس الجمهورية حاليا، الذي كان بين أبرز قادة الجيش اليمني، و«التجمّع اليمني للإصلاح» الذي كان لديه ميليشياته. اجتاحت تلك الميليشيات عدن وغير عدن وحاولت القضاء على كل مظهر من مظاهر الحياة المدنية والانفتاح على العالم في المدينة.
ما ارتكب من أخطاء في حق الجنوب اليمني والجنوبيين لا يحصى. عزّز ذلك الشعور بالاضطهاد لدى الجنوبيين الذين نهب قياديون من «الاخوان المسلمين» وضباط ورجال أعمال قريبون من علي عبدالله صالح أراضيهم ومنازلهم، بما في ذلك منزل علي سالم البيض في عدن!
هذا غيض من فيض ما تعرّض له الجنوب الذي ولدت فيه مظاهر عداء، غير مبرّرة أحياناً، لكل ما له علاقة من قريب أو بعيد بالشمال. هناك بكلّ بساطة وضع جديد في الجنوب بكامله. وهذا ما يفترض أن تستوعبه «الشرعية» الممثّلة بـ «الرئيس الانتقالي» الذي لا يرتكب خطأ السعي الى ارتداء بدلة علي عبدالله صالح فحسب، بل يعتقد أن عدن لا تزال التي عرفها في مرحلة ما قبل «أحداث الثالث عشر من يناير 1986»، وهي الأحداث التي انتهت بخروج علي ناصر محمّد من السلطة.
كان عبد ربّه منصور في تلك المرحلة من أنصار علي ناصر محمّد. وهو يأتي مثله من محافظة أبين. كان علي ناصر الأمين العام للحزب الاشتراكي الحاكم ورئيس الدولة ورئيس الوزراء في الوقت ذاته. على الرغم من ذلك، أزيح من السلطة ولجأ مع أنصاره الذين يعرفون بـ «الزمرة» إلى صنعاء.
كانت الاحداث التي وقعت في الشهر الاوّل من العام 1986 صراعاً على السلطة أخذ طابعاً مناطقياً أكثر من أيّ شيء آخر. تجاوز الزمن هذا الصراع، خصوصاً أن الوضع اليمني كلّه تغيّر. مثلما تغيّرت طبيعة المجتمع والعلاقات العشائرية والتركيبة القبلية في الشمال، مع بروز ظاهرة الحوثي وانهيار الصيغة المعقّدة التي كانت تتحكّم بمفاصل السلطة في اليمن كلّه انطلاقاً من صنعاء، تغيّرت أيضاً طبيعة المجتمع في الجنوب.
لم يعد في استطاعة عبد ربّه منصور أو غير عبد ربّه منصور تجاهل القوى الجديدة على الأرض، خصوصاً المحافظ السابق عيدروس الزبيدي الذي أظهر قبل أيام قليلة قدرة كبيرة على الحشد في المدينة. الأهمّ من ذلك كلّه ان «الرئيس الانتقالي»، عاجز عن فهم المعادلة الجديدة في اليمن، بما في ذلك ما يدور في عاصمة الجنوب. من بين ما يعجز عن فهمه أن مطار عدن ليس مجرّد مطار يستخدم لأغراض مدنية بمقدار ما أنّه جزء من منظومة دفاعية ذات امتدادات إقليمية تستهدف منع انهيار اليمن كلّياً وتحولّه الى قاعدة إيرانية.
ليس دفاعاً عن عيدروس الزبيدي الذي يستطيع الدفاع نفسه، بل هناك حاجة إلى إقرار بواقع يتمثّل في أن القوات الاماراتية كانت رأس الحربة في عملية استعادة عدن. بذلت هذه القوّات جهوداً كبيرة وقدّمت ضحايا من أجل تحرير عدن من «انصار الله» ومن القوات التابعة لعلي عبدالله صالح. هذا ليس وقت التصرّف كما لو أن كلّ شيء على ما يرام في عدن وأن في الإمكان وضع اليد على مطار المدينة بصفة كونه باب رزق يستفيد منه هذا المسؤول أو ذاك، تماماً كما كانت عليه الحال في مرحلة ما قبل انهيار النظام في اليمن وانتقال الصراع إلى داخل اسوار صنعاء بين علي عبدالله صالح وخصومه من «الاخوان المسلمين» تمهيدا لاستيلاء الحوثيين على المدينة في سبتمبر 2014. وهذا الأمر لم يكن ممكناً لو استطاع عبد ربّه منصور وقتذاك فهم أن الحوثيين صاروا في صنعاء بمجرّد أنّهم استطاعوا السيطرة على محافظة عمران والقضاء على اللواء 310 الذي كان بقيادة حميد القشيبي.
هناك أمور لا يمكن التساهل تجاهها، لا لشيء سوى لأنّها تمس الوضع اليمني كلّه. ليس في الإمكان الاتيان بمحافظ جديد لعدن يدعى عبد العزيز المفلحي، لمجرّد أنّه من الضالع. تكفي قراءة سريعة للنبذة التي قدّمها المفلحي عن حياته للتأكّد من انّه شخص غير جدّي. فهو، استناداً الى النبذة من مواليد 1957 وقد بدأ نشاطه السياسي في 1965، أي عندما كان لا يزال في الثامنة من العمر. يقول المفلحي أيضاً انّه «حكم عليه بالاعدام في العام 1974»، أي عندما كان في السابعة عشرة من العمر عندما «اصطدم» بالنظام الذي كان قائما في اليمن الجنوبي. إنّنا أمام رجل يمارس السياسة منذ كان في الثامنة وصار خصماً لدودا للنظام في سنّ السابعة عشرة. من يستطيع تصديق ذلك، خصوصاً ان الكلام يصدر عن رجل شبه مجهول يعتبر نفسه من بين الشخصيات الخمسمئة المؤثّرة في العالم!
هذا ليس وقت المزاح في اليمن. هذا وقت العمل الجدّي. والعمل الجدّي يبدأ بالاعتراف بأنّ كلّ شيء تغيّر في اليمن وأن الحاجة قبل كلّ شيء الى من يفهم المعادلة الجديدة بدءاً بالإقرار بأنّ النجاحات الوحيدة التي تحقّقت فعلا على الأرض كانت في عدن والمكلا، في مرحلة لاحقة، وفي المخا قبل فترة قصيرة. ليس عيباً الاعتراف بفضل تحقيق هذه النجاحات في حال كان مطلوباً إيجاد قاعدة صلبة يمكن البناء عليها في اليمن وليس على «رئيس انتقالي» لا يزال يعيش في أيّام الصراع على عدن في مرحلة ما قبل العام 1986 بين «القبائل الماركسية» المنتشرة في المحافظات والمديريات القريبة من المدينة.