“البعث” حزب كارثي، دمر العراق وسوريا. بدأ بشعارات قومية كبرى وملهمة، وانتهى بمشاريع لا وطنية صغيرة. حزب متخندق، وبنظام أبوي استلابي. وفي دولة “البعث” ترهب المخابرات المجتمع. حزب قامع وطائفي واحتكاري ومخادع.
حزب عقيم وتبريري وإفسادي ينقلب على قيمه المزعومة. والثابت أن سلالة حزب “البعث” ساهمت في تغذية بؤر التطرف المضادة وإفرازها؛ فهو أكثر من رفض الإصلاح السياسي، ووقف ضد التطلعات الشعبية الديمقراطية، كما رفض تنمية وازدهار الحياة السياسية في العراق وسوريا، فهو نظام يتمركز حول ذاته، حول عراق صدام وسوريا الأسد. نظام شمولي مزايد بالقضايا العربية. يعمل لتطييف المجتمع ولتجريف الدولة، بينما يزعم المظلومية وهو ظالم.
وتاريخياً، كان”البعث” واحداً، انقسم إلى اثنين. في العراق لم يعمل على التعددية السياسية، احتكر السلطة وقام بالوصاية على المجتمع، كما أعاد صياغة الجيش ليتحول بولاء تابع للحاكم لا للوطن. ولقد استمر حكم صدام يتغذى مناطقياً من تكريت باسم القومية إذا أمكن التشبيه، إضافة إلى أنه تحيز للطائفة السنية بشكل ملفت.
وفضلاً عن هذا، اعتدى على سيادة الكويت، ممارساً جرائمه النوعية ضد كل المعارضين السياسيين عموماً، حتى جاء الإحتلال الأمريكي في خضم محاولاته الدؤوبة لتوريث الحكم، وفيما هو لم يتخفف بعد من أعباء الحرب العراقية الإيرانية التي اعتُبرت بمثابة فخ استراتيجي كلفه كثيراً، وخلّف آثاراً غير إيجابية أدت إلى مزيد من تدهوره.
كذلك في سوريا، لم يعمل “البعث” على التعددية السياسية، بل إنه احتكر السلطة وقام بالوصاية على المجتمع، كما أعاد صياغة الجيش ليتحول بولاء تابع للحاكم لا للوطن. ولقد استمر حكم الأسد يتغذى مناطقياً من القرداحة باسم القومية إذا أمكن التشبيه، إضافة إلى أنه تحيز للطائفة العلوية بشكل ملفت، في حين خاض صراعاً سياسياً عارماً مع “بعث” العراق انعكس على علاقة البلدين ومصالحهما القومية بآثار سيئة جعلتهما يتدهوران معاً. وفضلاً عن هذا، اعتدى على سيادة لبنان، كما مارس جرائم نوعية ضد كل المعارضين السياسيين عموماً، إلا أنه نجح في توريث الحكم، وهاهو يجلب أمريكا وروسيا وتركيا وإيران والخليج بالمقابل.
بمعنى آخر، إن تجربتي “البعث” بين بغداد ودمشق – كأهم عاصمتين مركزيتين في التاريخ العربي – تظهران أنهما يتطابقان تماماً في أخطائهما الفادحة، جراء الإنحراف الرهيب ناحية الأفكار التسلطية، بحيث صار “البعث” أكثر انفصامية مع مزاعمه التقدمية في الأساس، أي أن التأزم القومي والمذهبي هو الذي استمر يسيطر على الوعي “البعثي” فقط، معززاً بقيم استبداد سلطة ميكانيزم الفرد الحاكم وعائلته وعزوته العشائرية في الضفتين، بخلاف أن أقلية الأكراد هنا وهناك ذاقت بشدة مرارة الشوفينية القومية بالمقابل، الأمر الذي فاقم من تفكك النسيج الوطني السوري والعراقي أكثر.
بل لعل من الطبيعي أن تذهب تركة “البعث” عراقياً وسورياً، في المقام الأول، إلى البدائل الطائفية، كما يقول المنطق للأسف. فالمعروف أن “إخوان سوريا” الذين دعموا من العراق في الثمانينيات تمت إبادتهم، بمقابل حزب “الدعوة” الشيعي العراقي الذي كان مدعوماً حينها من سوريا وتمت إبادته. وبالنتيجة، ستظل المسألة الوطنية دون حلول موضوعية لفترة طويلة، جراء ما تسببا به من أضرار جمة على العقل الوطني السوري والعراقي.
ذلك أن كل أنواع النزق “البعثي” الغبي عراقياً وسوريا استمرت تتراكم فوق بعضها حتى تكدست وفاضت بما يفوق القدرة المجتمعية على الاحتمال، بينما كل الفرص الثمينة من أجل التحول والنجاة تم إهدارها على نحو عبثي عجيب في كل من العراق وسوريا، حتى أن ذريعة دعم المقاومة – بالرغم من نبلها – لا يمكن أن تعني على الإطلاق استمرار العدوان السلطوي ضد حقوق وحريات المجتمع في الداخل.
هذه هي مسارات الحزب كما ترسخت بجنون لا أصلف منه، الحزب الذي لا يتنازل من أجل شعبه، حزب الحلول الأمنية الباطشة، حزب المنتفعين في كل قطر عربي، الحزب الذي يجعل من الفاشية الدينية الإحتياط الوحيد له كما تقول الدلائل، الحزب الذي يقود نفسه كما دولته وشعبه إلى هاوية كارثية جداً، الحزب الذي يمحو قيم الإنسان والدمقرطة والمدنية والمواطنة من أجل استمراره ليس إلا، حزب النمط الواحد والتوجهات الواحدة بالقوة وبالقمع، حزب الضجيج والزعيق القومي والمقاومي الذي استولى بصرامة على العراق وسوريا بكل ما تملكانه من ممكنات خلاقة واستثنائية للرقي وللتقدم، فيما أضاعهما بكل اعتباراته الأنانية الهوجاء لتي انطوت عليها سياساته غير الناضجة وغير الراشدة، إلا باعتبارها سياسات غارقة داخلياً في الدم والتذاكي، وخارجياً في المكابرة والهذيان. بالمحصلة، وحتماً، يا لها من مسيرة انهيارات لا تُحتمل.