«كل ما هو نقيض يتجمع، ومن المختلف يولد أجمل انسجام. كل شيء يتحول بالتنافر» – هيراقليطس. الموت المعلن بحق موت النظام العربي بغثه وسمينه. رواية السارد الرائع غارسيا ماركيز تتحدث عن موت سانتيا نصار على يد اثنين من إخوة بيكاريو. للرواية جذر واقعي في مسقط رأس غارسيا في الريف الكولمبي. تلكم حكاية من الأدب الغرائبي أو الواقعية السحرية. موت النظام العربي وقائع كارثية وفاجعة.
إنها محاولات الحكام العرب جلهم قتل ونفي وتشريد شعوبهم، بعد أن رفعت هذه الشعوب المحتجة أصابع الإتهام في وجه حكامها «الأموات الأحياء»، كقراءة ماركس.
في الوطن العربي أصبح القتل الوسيلة المثلى والوحيدة للوصول إلى الحكم أو الإستنقاع فيه. الحرب المسعرة سببها الأساس هبّة الربيع العربي. فالثورة السلمية في تونس ومصر وليبيا وسوريا والبحرين والسودان والجزائر والمغرب حالياً باغتت الحكم العربي الفاسد والمستبد.
فهؤلاء الطغاة الصغار اعتقدوا أن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها هو السلاح والجيوش الجرارة والأجهزة الأمنية المتعددة. كرّس الحكم ثروات البلاد لشراء السلاح وبناء الجيوش. حتى البلدان الفقيرة كاليمن كانت تجارة السلاح وبناء القوات الهم المقيم للحاكم فيها، ويستنزف النصيب الأكبر من المساعدات والقروض وموارد شعب فقير وجائع تغتاله الأمية والأوبئة الفتاكة وبطش الأجهزة.
الجيوش الكاثرة فشلت في امتحان حماية السيادة والاستقلال أو بناء تنمية وتحديث، ونجحت فقط في قمع الشعوب العربية وإذلالها وتركيعها أمام طغيان الحكام وعبثهم بالثروات والموارد والمصائر.
الجيوش وأجهزة القمع جرى تدريبها بالأساس لمواجهة الداخل. إنتفاضات الربيع العربي مثلت الطوفان الجماهيري الذي لم تستطع صده، فكانت الحرب الوسيلة المثلى لتخريب الثورة السلمية ومنجزات الأمة لمئات وآلاف السنين.
صُوّر الأمر – بقدر من الخديعة – في العراق أن الهدف رأس صدام، بينما احتز التحالف الثلاثيني رأس العراق. شاركت بعض الأنظمة العربية والجيوش والمال. قادت أمريكا المعركة واحتزت رأس وحدة العراق، وشرعت في نهب ثرواته وآثاره التاريخية، وأسلمت أمريكا العراق إلى إيران ومليشياتها الطائفية، وساهم الخليج والسعودية في الدفع بالدواعش لتدمير مؤسساته.
ظلت المسيرة السلمية الحاشدة ولستة أشهر تجتاح الريف السوري، وتمتد إلى المدن الكبيرة لسبب جلي هو القبضة الحديدية لجيش الأسد. فلجأ النظام إلى الجيش وأجهزة القمع الكاثرة والمرتزقة والشبيحة، وجرى إطلاق السجناء، وهم آلاف مؤلفة كثير منهم مجرمون وأصحاب سوابق وقتلة؛ لحرف المسيرات السلمية عن مسارها، وفرض الحرب كخيار وحيد.
وبادرت دول الخليج والسعودية وتركيا وإيران بالتدخل العسكري مع وضد النظام، وتكون النتيجة تدمير الكيان العراقي والمعالم التاريخية والحضارية في كل من العراق وسوريا، والقضاء بواسطة التيارات الإرهابية المدعومة من هذه الأنظمة ومن سلطة الأسد نفسه على التنوع والتعدد، وإعطاء الصراع في بلاد الرافدين الأبعاد الطائفية المقيتة: سني – شيعي، مسيحي – مسلم، كردي – عربي، وجرت تصفيات للأقليات والإثنيات فيها.
وبعد خمسة أعوام، تؤكد الشواهد والأحداث أن المطلوب ليس رأس بشار، وإنما رأس الشعب السوري، وتدمير معالمه التاريخية والحضارية، وتمزيق وحدته الوطنية، وإبعاد شبح ثورة الربيع العربي وإلى الأبد.
أما في ليبيا فمأساة قتل الشعب الليبي أكبر من قتل سانتيا نصار. وهو – أي نصار – من أصول عربية لحقه القتل إلى قرية السارد الرائع ماركيز. فالقتل لعنة العربي أينما حل ورحل!
بخطى حثيثة يسير النظام العربي نحو الموت، لكنه يقاوم قدره، لكأنه حريص على ألا يموت إلا بعد تمويت الشعب العربي، ولسان حاله يقول: «أقتلوني مالكاً»، و«علي وعلى أعدائي».
في الوطن العربي أنظمة وقادة وأحزاب ونخب يمشون بأكفانهم على ظهورهم، وكأنهم معجزة الموت في الحياة كقصة النبي سليمان، «فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته» – [سبأ، الآية 14]. فهل الثورة الشعبية السلمية دابة الحكام تهز عروشهم ليهرب البعض ويسقط الآخر أو يُقتل والبقية تنتظر؟
يمكن تعليل وتسبيب الحرب المدمرة بالتدخل السافر والمباشر للقوى الإقليمية والدولية لإعاقة الثورة السلمية أو حرفها عن مسارها، سواء بذهنية المؤامرة أو الخديعة، وقد تُعلّل بشهوات الزعامات والتنافس على الهيمنة والاستحواذ على الثروة كحال حكام الجزيرة، وقد تكون قيم ومعاني صراع الحضارة والبداوة حاضرة وبقوة رغم قشور ومظاهر التمدن وتقمص أردية الحداثة.
كان الزبيري شاعر الوطنية اليمنية – كتمسية الجاوي – يسخر من الإمام البدر، آخر إمام من بيت حميد الدين:
يبهرون الدنيا بزورة موسكو… وعليهم غبار دنيا ثمود
فالقيم الآتية من أيام العرب الأولى في الجزيرة العربية ما تزال ثاوية في عقول ووجدانات الحكام الوارثين. لكأن الشاعر الجاهلي القطامي لم يقل شعره إلا فيهم:
فمن تكن الحضارة أعجبته… فأي رجال بادية ترانا
وكن إذا غزون إلى جناب… وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحياناً على بكر أخينا… إذا لم نجد إلا أخانا
هل للصراع القائم في المنطقة كلها، وبالأخص في دول الخليج، علاقة بطبيعة هذه الأنظمة الشمولية والأبوية (البطريركية) وعلاقة الأخ الأكبر بالأخ الأصغر، وبالتنافس المجنون بين ورثة جدد امتلكوا إغراء القوة والمال، وسلطات مطلقة لا رقيب ولا حسيب عليها؟ هل العجز عن الإنجاز الحقيقي في البناء والتنمية والتحديث يدفع إلى افتعال الصراع وتعليق العجز على مشجبه لإسقاط المطالب، وقمع الإحتجاجات، وربما لترسيم الحدود الإستعمارية، ولطبيعة النظام القطري أثرها في الصراع المستدام.
ومع الإقرار بوجاهة وموضوعية الأسباب، وصلتها أيضاً بالصراعات الداخلية والتنافس بين جيل الأبناء، فإن السبب الرئيس والجوهري يبقى المواجهة مع الثورة الشعبية السلمية داخل كل قطر على حدة، وداخل الوطن العربي كله… هي علة الحروب المستدامة التي هي أبو الأشياء جميعاً، كمقولة هيراقليطس.
الصراع المدمر في المنطقة كلها لا علاقة له بدعاوى مكافحة الإرهاب؛ فالأطراف المنخرطة فيه أطراف أساسية في صنع ودعم وتمويل الإرهاب، ومرجعياتها الإقليمية والدولية صناع إرهاب بامتياز.
إلباس الصراع المدمر ثوب الديني أو الطائفي: سني – شيعي، مسيحي – مسلم، أردية زائفة؛ فالسعودية وقطر والإمارات والبحرين وتركيا كلها تمتح من بئر واحدة، وتتصارع أيضاً. الصراع الإيراني السعودي الخليجي سياسي يُوظّف فيه المذهب لأغراض لا علاقة لها بالدين.
البلدان العربية جلها في ذيل القائمة، وبعضها قد خرج عن التصنيف بمعنى أنه لم يعد شيئاً مذكوراً في الصحة والتعليم والبحث العلمي، وفي الحرية والديمقراطية والعدل الإجتماعي والحكم الرشيد، وفي مستوى المعيشة والرفاه، وفي الحداثة والبناء والتنمية وتفشي الأمية بمعنييها الأبجدي والمعرفي والتقني، والكثير منها أو جلها يتصدر قوائم العالم في تفشي العنف والإرهاب ومسلسل الإغتيالات والفتن المستدامة والحروب، وفي قمع الحريات العامة والديمقراطية وغياب النظام والقانون، وعدم احترام حقوق الإنسان، وبعضها قد تراجع عما كان عليه في القرن الماضي؛ فالفساد والاستبداد سيدا الموقف في هذه البلدان التي بعضها لم يعد أوطاناً بمعنى كلمة وطن، ويفتقد سكانها معنى المواطنة بمعنى الحقوق والواجبات.
شمس المنطقة وقمرها كاسفان. الانهيار المديد – كتوصيف الأستاذ حازم صاغية – يغطي المنطقة العربية كلها. قد تكون اليمن المنكوبة المنهوبة أكثر عرضة للانهيار أكثر من كل شقيقاته العربية؛ فنكبته مركبة ومضاعفة؛ فهو يشهد حربين: داخلية وخارجية، ومليشياته المتقاتلة مفككة وموزعة التبعية بين السعودية ودول الخليج المتصارعة أيضاً، مما ينذر بنقل صراعاتها الكالحة إلى يمن مصاب بوباء الحروب المستدامة والمتناسلة وبالأوبئة الفتاكة والمجاعة حتى الموت.
تقف المنطقة العربية كلها أمام إرادتين مغايرتين ومختلفتين، وقادة أحزاب ونخب متخشبة آتية من أغوار ماضي: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر». لا يعولون على رضا الناس، ولا يرتضون غير الحكم بالقوة وإرغام الناس على الإذعان بمنطق: «وننكر إن شئنا على الناس قولهم… ولا ينكرون القول حين نقول»، وبين إرادات شعبية سلمية عامة لم تعد تقبل بحكم الغلبة والإكراه، وتريد وطناً آمناً وحكماً ديمقراطياً وحرية وخبزاً وسلاماً… ذلكم جوهر الصراع الدائر منذ عقود.