يولد اليمني بجناحين وجواز سفر، لكنه متعلق ببلاده وينظر إليها بعينين مفتوحتين، حتى وهي تمر بأسوأ حالاتها تلقاه يهرول دائماً للرجوع إليها. واليمني على أية حال كائن تلقائي وظريف. تسأله كيف الأوضاع يا فلان؟ يختصر لك كل ما هو حاصل في العالم بكلمتين اثنين: يا ضاك الدنيا معصودة عصيد!
وعلى المستوى الإجتماعي، يكلمك اليمني في السياسة أكثر مما يكلمك عن أطفاله وشغله وهواياته وخيباته ونزواته. وبسبب الكبت والقات يفكر اليمني دائماً بالجنس، ويعتبر الحديث عنه قلة أدب، وأول ما يتزوج يسمن فيسع، وبعد سنتين ينحل قيقول: «كمل أبو الليم». وفي الظاهر، يتحدث اليمنيون عن الفضائل وينتقدون الرغبات، وقال الله وقال الرسول عبارتان لزيمتان لدى السواد الأعظم من الناس، وفي الباطن الله يستر، تحدث الأفعال والأهوال ويشاهد المرء مجتمعاً لا تنقصه الأخلاق ولا تنقصه المروءة، وإنما تنقصه الحرية ليختار ما يريد.
وهو كائن يخجل من الإطراء، وكسر رأسه لما تسأله كم الساعة، لأنه الكائن الوحيد على كوكب الأرض الذي يعيش الحياة وهو متحمل الأيام فوق أعدانه، ولا يصدق متى يجزع اليوم حتى يرتاح من هم يوم راح، ما جعل منا شعباً يتزوج باكراً ويشيخ باكراً ويأوي باكراً إلى تل الخسارات. وفي الصباح، تسأله مثلاً: كيف حالك يا فلان؟ يرد: نحمد الله.
وعند العصر، أول ما يبدأ تخزين القات، تسأله كيفك يا فلان؟ يرد فيسع وهو منتعش: «أووه، في نعمة وأكثر من هكذا قد هي بطره».
وبعد القات، تسأله هو نفسه، كيف حالك يا فلان؟ يرد عليك بوجه مقلوب: «من حق هذه الأيام ياخي ما عد درينا ما هي من حياة إحنا عايشين فيها»، ويجرك إلى المواجع من غير رضاه.
وفي اليمن طبعاً يستقبلك الكبير والصغير بكلمة «أهلاً يا أستاذ»، حتى لو كنت عاطلاً عن العمل. وعندما يتعرف عليك، يسألك مباشرة: من أين أنت؟ فتجيبه، فيحدد سؤاله أكثر: «من أين بالضبط؟»، فتحدد إجابتك أكثر، يغوص في التفاصيل أكثر: «من بيت من؟»، تلبي له فضوله، فيزداد فضولاً: «من أي قرية بالضبط؟»، فتجيبه وأنت تنتظر متى يسلمك الجائزة! وبعد كل هذا الإستجواب، يسألك: «وكيف البلاد عندكم؟ في مطر؟»!
وكل حدث عظيم، وكل حدث جسيم يعيشه اليمني يدخل فيسع إلى دائرة المألوف والمعتاد. اليوم مثلاً تقول له: «رفعوا سعر الدبة البترول يا فلان»، فيرد: «ماهي هذه البلاد؟!»، وفيسع قبل الزحمة ينبع المحطة يتزود بالوقود بالسعر الجديد. وبعد أسبوع يوصلك مشوار، والراديو فوق السيارة يذيع نشرة أخبار عن موجة غلاء أسعار عصفت بالمواطنين في الهند، يتنهّد متأثراً عليهم، وهو يقود يقول: «مساكين ياخي.. لكن الله يلطف بالعباد»! أما هو قد حل مشكلته يعني؟!
وفي الحروب، أول يوم يرتعب اليمني على لقمته، وترى الناس اليوم الثاني يتنابعوا إلى الأسواق ساع الجراد، يشترون قمح وسكر ومقاضي. وفي اليوم الثالث، تتحول الحرب عندهم إلى مجبر يمشي لهم ساعات المقيل، كما تتحول القوارح إلى مجال للفرجة والشجن. وتجد قبول تتصل بخديجة تسألها: «كيف الضرب عندكم اليوم؟». ومرشد يسمع صوت قارح، ينبع فيسع يتصل لمهيوب يبشره: «سمعت الدبيج حق اليوم أو ماشي؟»، ومهيوب يرد وهو ضجران: «أيوه، سمعت بس القوارح حق اليوم رابخات… مش سع حق أمس… يا لطيف والدبيج ما خلونا نرقد»!
يعني الآدمي ما يشتيش يهرب، يشتي يرقد وعيال اللذينا ما خلوه يهجع.
وعلى الرغم من الحروب المتكاثرة والأهوال والإحباط، إلا أن إنسان هذه الأرض جسور، وعند اشتداد المحن بالذات يتحول إنسان اليمن – بقدرة ذهنية سريعة – إلى قلب ضحوك يسخر من كل شيء… من الموت ومن الحياة ومن الشخوص الذين تسببوا في صناعة العذاب والمحن.