الخميس, 19 ديسمبر, 2024

من أين تأتي الحرب؟

بقلم:عبدالباري طاهر|

بدلاً من الحديث المسهب عن السلام، فلنتحدث عن الحرب؛ فتشخيص الداء دائماً ما يسبق الدواء، بل إنه ليستحيل العلاج قبل التشخيص! معرفة العلل والمسببات والبيئات الحاضنة والمولدة للحروب وبؤر الفتن والإرهاب خطوة أولى ضرورية ومهمة للبحث عن المعالجات، وطرح الأسئلة الأكثر موضوعية وصدقاً في الخلاص من أوزار الحروب وجرائمها الكارثية المتسلسلة والمستدامة. أليست الحرب جذر الأشياء جميعاً كما يقول هيراقليطس؟ ليست الحرب سمة عربية أو يمنية، وإن اشتهرت العرب بداحس والغبراء والبسوس ومفرادتهما الكريهة في التاريخ العربي، والتي تستعيدها الذاكرة من حين لآخر، لكن لا للعظة والاعتبار!
الحرب في اليمن إرث وبيل ومستدام. هل القبيلة التي كانت يوماً متحضرة وبنت السدود، وشيدت المصانع في اللغة اليمنية، وزرعت المدرجات في شواهق الجبال، وبرعت في النحت والتماثيل، وشقت الطرقات ومجاهلها للقوافل، وتسيير السفن في البحر هي اليوم جذر الحروب ومصدرها؟ أم أن البيئة الشموس والقاسية بالمعنى العام هي الأرض الخصبة للحروب كقراءة الأحرار اليمنيين (الحركة الوطنية الأم)؟ أم أن التركيبة القبلية شديدة العصبية والتخلف، وحالات المجاعة التي تجتاح مناطق معينة، هي وراء دائرة الحرب المكرورة؟
يربط الفكر الماركسي التحولات المجتمعية بالاقتصاد والحالة الإجتماعية، ويعتبر الماركسيون البعد الإقتصادي أساس كل التحولات. لا تلغي الماركسية العوامل الأخرى، ولا تلغي أثرها ودورها، فلدى ماركس: «من يملك يحكم». وفي الديانات التوحيدية يعتبر التملك وشهوته أساس قتل قابيل أخاه هابيل. لا شك في أن حروب الجاهلية مختلفة عن حروب العصور الوسطى، وحروب العصور الحديثة وأدواتها وأساليبها مختلفة أيضاً، إلا أن المعاني الجوهرية والدلالات والأبعاد للحروب تظل ممتدة ومتواصلة؛ فالقتل والدمار والإبادة حاضرة.
المال، السيطرة، والانفراد هي بؤر الحرب الحقيقية وإغواؤها الأبدي. يقول العلامة الشهرستاني: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان». أما الخليفة الخامس، عمر بن العزيز، فيرى أن المسلمين لم يختلفوا على ربهم، ولم يقتتلوا على صوم أو صلاة أو حج، وإنما اختلفوا من حول المال والسلطان. لا شك في أن حكم القوة والغلبة الذي ساد في التاريخ البشري، وبالأخص في البلاد العربية، وعلى وجه أكثر خصوصية في اليمن، القاعدة المتعارف عليها، ولكن الأمر في اليمن مختلف، فمن يحكم يملك. أفراد غاية في الفقر، وأسر وأفخاذ قبائل أو حتى قرى صغيرة بائسة وفقيرة يتحول بعض أبنائها إلى أثرياء وتجار كبار ورجال أعمال، بمجرد وصول أحد أبناهم إلى السلطة.

حمى الحروب المستدامة في اليمن تعود في جانب مهم منها إلى أن السلطة مصدر ثراء فاحش في بيئة فقيرة حد المجاعة، في مجتمع شديد التفاوت في النمو والتطور، بل هو أنموذج للتفاوت في المنطقة العربية كلها. هذا التفاوت في النمو والتطور حال دون الإندماج الوطني، وأبقى على المكونات الأساسية الأولى للمجتمع حية. فمبقدار ما تضعف الدولة أو بالأحرى السلطة تسهل العودة إليها، وتحل تلقائياً محل السلطة الضعيفة والهشة منذ الولادة.

الحروب الفاشية اليوم في غير مكان في اليمن آتية ومتناسلة من حرب 94؛ فحرب 94 القابلة والولادة لكل الحروب التي تناسلت منها حروب صعدة الستة، وعشرات الحروب في العديد من المناطق، ومئات وآلاف الثارات والاغتيالات السياسية التي أخذت بعداً غير مسبوق بعد هذه الحرب. والقصة كلها مرتبطة بالرغبة في الانفراد والسيطرة وإلغاء الآخر وإقصائه إن لم تكن أخطر من ذلك.
ثقافة الكراهية، التكفير، والتخوين، جذر أساسي لهذه الحروب. خطاب المسجد التحريضي، إعلام الأحزاب السياسية، مناهج التربية والتعليم، أسهمت وتسهم في تغذية الوعي بالكراهية، ورفد الخطاب العام للسلطة في إشعال الحروب وإذكائها. الاستعمار غير بعيد، بل هو سبب رئيس ومتواصل في تفجير الحروب في المنطقة العربية. الاحتلال الإسرائيلي الإستيطاني، ونظام الفصل العنصري الذي اختفى من العالم وبقي كتشريع وممارسة ونظام في فلسطين المحتلة.
لم تعرف الأمة العربية كلها اتجاهاً مغايراً ومختلفاً لنهج الفتن والحروب إلا مع ثورة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة العربية كلها. يختلف علماء الإجتماع والفلسفة والقانونيون في تعريف الدولة. جلهم يجمعون على اعتبار الدولة أداة القهر ومحتكرة القوة واستخدام العنف. في البلدان العربية عجزت الدولة «الثورجية» عن التحول إلى الدولة الوطنية الديمقراطية، أي الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية رغم الدعاوى الطويلة العريضة، لتظل شرعيتها الوحيدة القوة. أما البلدان ذات الأنظمة الملكية فهي الدولة الوراثة للشرعية، ومواطنوها مجرد رعايا وتابعون، طاعة حكامهم التجسيد الإيماني لطاعة الله، والناقد أو المعترض على سياساتها مرتد وفي أحسن الأحوال فاسق يستحق العقاب.
الحروب المسعرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن هي العقاب للشعوب المتمردة سلمياً على إرادة حكامها. نحن أمام حالة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، حكومات تعجز عن حل قضايا تمس أولويات مهام حكمها. سياساتها الفاشلة واللاديمقراطية غيبت الحريات العامة والديمقراطية، وكممت الأفواه، وجوعت السكان، ولم تحقق الجزء اليسير من الوعود السخية التي تعد بها رعاياها، عجزت عن حماية السيادة والاستقلال، وخلقت صراعات من كل لون وشكل، ونهبت ثروات شعوبها وأفقرتها، وعندما انتفضت الشعوب العربية كان الرد الإحتكام إلى السلاح.
القوى المحلية والإقليمية والدولية، صانعة مشاهد الحروب والارهاب والعنف، هي نفسها اليوم من يتصدى لمحاربة التطرف والارهاب، ثمرة الحروب التي صنعت. وإذا كانت حروب التحرير والثورة والاستقلال وتحرير فلسطين قد تركت جراحاً غائرة في الجسم العربي، ولم تحقق أماني ومطامح شعوبها، فكيف ونحن اليوم أمام حروب الطوائف والعشائر والسلالات وعصابات الإرهاب والعنف؟!

خليك معنا

آخر الأخبار

مرحبا بعودتك!

تسجيل الدخول إلى حسابك أدناه

استرداد كلمة المرور

الرجاء إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.

أضف قائمة تشغيل جديدة