الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
لدرجة أن قائدها فر مع عدد قليل من جيشه فيما البقية قضوا في المعارك مع اليمنيين بل إن بعض الكتاب الأجانب نقلوا عن مصادر إغريقية ورومانية أن الحملة انتهت بهزيمة منكرة راح ضحيتها نحو عشرة آلاف جندي روماني ولم يعد سوى فرد واحد من أفراد الحملة كي يخبر سادته عن الهزيمة (ثوركلدهنزن وقائع الحملة الدانمركية إلى اليمن صحيفة الأخبار اللبنانية العدد 3270 السبت 9 أيلول 2017) ومن خلال ما اعتمد عليه اليمنيون في إثبات ما ذهبوا إليه سواءً من خلال الروايات المتناقلة والمتوارثة جيلاً بعد آخر، أو من خلال الطرح الموضوعي القائم على التشكيك بمصداقية الرواية الرومانية بحكم تناقضاتها المختلفة، وكافة من تطرقوا إلى هذه القضية أدلوا بدلوهم وكانوا أكثر منطقية وموضوعية في إثبات مقاومة اليمنيين وتأكيدها وبإمكان كل من يقرأ الكتابات الرومانية عن تلك الحملة أن يدرك حجم التناقضات والمبالغات والأكاذيب من خلال معرفة الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية في اليمن والمنطقة والتناقض مكشوف فيما دونه استرابون وفي نفس النص المتعلق بالحملة إضافة إلى تناقض كلية النص مع حقائق تلك المرحلة سواءً ما له علاقة باليمنيين أو بالوضع الإقليمي برمته ناهيك عن السياق التاريخي للحملة وما يرتبط بها من مسلمات متعارف عليها عسكرياً وسياسياً في مختلف المراحل التاريخية.
لقد ارتكب سترابون ولأغراض سياسية بحتة جرماً في حق نفسه كمؤرخ وكاتب وكذلك في حق التاريخ حين عمد إلى التزوير والتزييف والتحريف والكذب وعلى قدر امتداد هذا التزييف على طول فترات التاريخ كانت الجريمة أفدح وأشنع ، فالكثيرون من المهتمين بالتاريخ اليمني أو حتى الروماني قد لا يجدون أمامهم عن تلك المرحلة سوى كتابات الكلاسيكيين الرومان ومنهم سترابون وبالتالي فإن المواقف تتشكل لديهم بحسب ما اختلقها استرابون في مخيلته ودوّنها في كتبه، لكننا وجدنا في مراحل لاحقة كيف أن بعض المؤرخين الأجانب أنصفوا اليمنيين وأكدوا أن مقاومتهم للمعتدين كانت وراء الهزيمة الساحقة التي أدت إلى فناء معظم المشاركين في الحملة.
ويقول المؤرخ محمد عبد القادر با فقيه «أغلب الظن أن استرابون لم يكن أميناً في وصفه للحملة ولم يكن في حديثه ذاك مؤرخاً يتحرى الحقائق وإنما كان سياسياً يدافع عن سمعة إمبراطوريته وعن صديقه القائد الذي فشل ، ولكنه فشل هو الآخر في دفاعه عن فشل ذلك الصديق ، فلم يكن حديثه بالتاريخ الصحيح ولا بالدفاع الموفق « ( تاريخ اليمن القديم ص 76) ، ويقول المؤرخ الشماحي : الحقيقة أن الذي أنهى الجيش الروماني الجرار وجعل من الصحراء أو من التربة اليمنية مقبرة لهم هو ابن اليمن الذي عُرف عبر الزمان أنه جعل من اليمن مقبرة للغزاة (الشماحي ص 57) ، ولو كانت الصحراء أو التورط في متاهاتها هي وحدها التي ابتلعت الجيش الروماني فيكف نجا المؤرخ استرابون وصديقه القائد جاليوس. (الشماحي57)
إن الكتابات الرومانية تحاول أن تقول للعالم إن اليمن وقتها لم يكن يمتلك جيشاً أو إن اليمنيين لم يكونوا قادرين على القتال وهذا يناقض التاريخ اليمني برمته وتاريخ تلك الفترة بالتحديد التي شهدت فيها اليمن حروباً عدة ،منها الحرب بين حمير وحضرموت (تاريخ حضرموت للحامد ص 109)وهنا نورد ما ذكره استرابون حول مسار الحملة وكيف وصف اليمنيين الذين قرروا مقاومة الغزاة : وبعد ستة أيام وصل الجيش إلى ضفاف نهر …
وكان في انتظاره البرابرة الذين خاضوا معه معركة قُتل فيها منهم عشرة آلاف رجل وقُتل اثنان من الجانب الروماني .. غير أن هؤلاء البرابرة كانوا بطبيعتهم قليلي الشراسة وليس هناك ما يماثل رعونتهم في التعامل مع أسلحتهم المختلفة مثل القوس والرمح والسيف لا بل وحتى الفأس حاد الجانبين الذي كان السلاح الأوفر عددا واستولى غاليوس فيما بعد على مدينة اسكا التي كان ملكها قد تركها أيضا ثم سار إلى ثرولا فاستولى عليها دون مقاومة ووضع فيها حامية وعقب تزوده منها بكميات كبيرة من القمح والتمر واصل تقدمه حتى مارسيابا لدى قوم الرحمانيين الذي كان ايلازار ملكا عليهم في ذلك الحين وقام بمهاجمة هذه المدينة وضرب عليها الحصار مدة ستة أيام غير أنه رفع عنها الحصار نتيجة نقص المياه لديه ومن هناك لم يكن سوى على بعد يومين من مواطن الطيوب مثلما يفهم من روايات الأسرى.
وعن حصيلة خسائر الرومان يقول استرابون قُتل اثنان من الرومان فيما القتلى من اليمنيين بلغوا عشرة آلاف رجل ، وهذا شيء مضحك سخر منه الكثير من الكتاب ليس العرب وحسب بل وحتى الأجانب ، يعتقد الكثير من المؤرخين والمهتمين بالتاريخ اليمني وبمرحلة الحملة الرومانية على وجه التحديد أن عدم تدوين أحداث الحملة وراء عدم معرفة الخسائر في صفوف الطرفين ، غير أن مسألة هزيمة الرومان وفشل الحملة في تحقيق أهدافها نتيجة المقاومة اليمنية صارت من المسلمات والبديهيات بفعل ما أكدته كتابات المؤرخين اليمنيين من تناقضات الكاتب الروماني استرابون الذي صور الجيش الروماني على أنه قوة لا تقهر استطاع اقتحام نجران بعد أن فر حاكمها وتمكن من إسقاط بقية المدن والتحصينات في الطريق إلى مأرب دون أن يواجه أي مقاومة ، وعندما حدثت المواجهات تمكن الرومان من قتل ما يقارب من عشرة آلاف ممن أسماهم بالبرابرة فيما كان عدد القتلى في صفوف الحملة شخصين فقط! ويجمل سترابون عدد القتلى في صفوف الجيش الروماني في كافة المعارك بسبعة جنود فيما الحقيقة أن «القائد أغسطس دُحر وخسر بذلك أكثر جنوده في طريقه على ساحل الحجاز» (تاريخ حضرموت صالح الحامد ج1/109).
خليك معناالمصدر: كتاب اليمن مقبرة للغزاة للباحث عبدالله بن عامر