بقلم:أسعد أبو خليل|
لا يزال اسم دول الخليج يرتبطُ في أذهان العامّة في الشرق وفي الغرب بالنفط. وفي الولايات المتحدة، لا تزال دول الخليج ترتبط بظاهرة استيراد النفط منها. ولكثرة ما يرتبط الخليج بالنفط ــ أو حتى الدول العربيّة بالنفط ــ فإن استفتاءً للرأي العام هنا كشف عن أن معظم الأميركيّين يظنّون أن ٧٣٪ من واردات النفط إلى أميركا تأتي من العراق والسعوديّة (وفق استطلاع لـ«يو.تي. إنيرجي»)، فيما الرقم الحقيقي لا يزيد على نسبة ١٢،٨٪ (معظمه سعودي المصدر)، أي إن مسألة الاعتماد الأميركي على النفط الخليجي لم تعد حاسمة في العلاقة مع تلك الدول بالدرجة نفسها كما في الماضي.
وليس تناقص استيراد النفط الخليجي هو وحده الذي أضعف من سطوة هذه القوّة الهائلة (نظريّاً)، وليس ذلك بسبب اعتماد أميركا على نفطها، خصوصاً بعد استخراج النفط الصخري. إن دول الخليج هي التي فرّطت بهذا السلاح بعد أن التزمت بالقطع لأميركا في عام ١٩٧٣ أنها لن تفرضَ أبداً حظراً نفطيّاً على دول الغرب. أفهمتهم أميركا في عهد كارتر أن حظر النفط سيُقابل في المرّة المقبلة بالاستيلاء بالقوّة على موارد النفط الخليجيّة. لا يعني ذلك أن أميركا لا تستعين بنفوذ السعوديّة النفطي. لا تزال الأخيرة (مع باقي دول الخليج) تقدّم خدمات جلل لأميركا في مسائل تقرير سقوف إنتاج النفط وأسعاره في «أوبك».
إن الجيل الثاني من حكّام الخليج نسخة مختلفة جذريّاً عن الجيل الأوّل ــ على فساده وسوئه وارتهانه للمُستعمِر. بين الجيل الأوّل من الحكّام العرب (خصوصاً في صنف الأنظمة الملكيّة والسلطانيّة) فروقات رسّختها المسافة بين حقبات سياسيّة فارقة.
عاش حكّام الخليج في الجيل الأوّل في خوف مستمرّ على عروشهم من سطوة عبد الناصر الجماهيريّة. ومعايشة عبد الناصر من هذا الجيل الأوّل أكسبتهم قلقاً دائماً على المصير وعلى استقرار العرش، خصوصاً أن تلك الحقبة شهدت محاولات انقلاب واغتيالات كثيرة. وهذا الخوف حقن سلوكهم بالكثير من التردّد والخشية والتحفّظ، خصوصاً في العلاقة مع الغرب. وكان الجيل الأوّل أكثر سريّة ــ بسبب ذلك ــ في التعامل والتحالف مع أميركا، وخصوصاً مع العدوّ الإسرائيلي (كان النظام السعودي يتواصل مع ممثّلي العدوّ في الستينيّات من خلال لقاءات سريّة في الهند).
والجيل الأوّل عاش شظف العيش (تحدّث الملك فهد مع زايد بن سلطان عن ذلك في مكالمة هاتفيّة سرّبتها المخابرات العراقيّة إلى سعد البزّاز في كتابه «حرب تلد أخرى»). ومعايشتهم لفترة صعوبة العيش زادت من معرفتهم بواقع عيش سكان بلادهم، ما أكسبهم خبرة في السيطرة والقمع وفي معرفة أهواء العامّة.
والجيل الأوّل كان أقلّ طموحاً بكثير من الجيل الثاني:سعى الجيل الاوّل ظاهراً إلى الإجماع العربي الرسمي، لأنه كان عليماً بأن مراكز قوى متعدّدة تعتري الصف العربي الرسمي. بعد موت عبد الناصر، ظهر النظام العراقي والسوري والجزائري (وإلى حدّ أقلّ، الليبي) كمراكز قوى تمنع على النظام السعودي فرض سطوته ومعاييرها بالكامل. كان النظام السعودي يفاوض ويدفع من أجل كسب الودّ السوري والعراقي.
أما الجيل الثاني من الحكّام السلاطين، فهو متفلّت من الضوابط. هؤلاء نشأوا في قصور منيفة ووسط أجواء من البذخ والبهرجة، ولم يتعرّفوا يوماً على نمط حياة الناس العاديّين. هؤلاء لم يسيروا في مطارات ولم يتعوّدوا مخاطبة الناس العاديّين ولم يلتقوا بفقراء إلا في الأفلام. الحاشية تقف بينهم وبين الناس. كذلك فإن حالة من الاستقرار السياسي صاحبت تجربتهم في الحكم، بعد أن زالت المرحلة الناصريّة، وأسقطت أميركا النظام العراقي، وسقطت سوريا في أتون صراع أهلي دموي.
ليس من منافسين في الساحة العربيّة للنفوذ الخليجي. المنافسة تنحصر بين الخليجيّين أنفسهم، وهذه المنافسة بينهم ستزداد، لأن طموح السيطرة سيزداد. والهوس بالخطر الإيراني يعكس حالة الثقة بالنفس التي عاشها هؤلاء الحكّام من الجيل الثاني. بعد أن خضعت المنطقة العربيّة لسيطرة أميركا وسيطرتهم، يريدون التخلّص من عدوّ واحد بقي لهم. محادثات هؤلاء مع المسؤولين الأميركيّين تنحصر في التخلّص من «الخطر الإيراني». وفي ما تسرّب من محادثات «ويكيليكس»، تتوضّح صورة محمد بن زايد أكثر.
والجيل الأوّل تعلّم المهادنة والمرونة في داخل العائلة حيث تعامل الحاكم مع أجنحة مختلفة ومتنوّعة في العائلة وبين القبائل، فيما يحكم الجيل الثاني من خلال شلّة صغيرة في داخل العائلة الحاكمة. وهي تتشكّل بالانحدار من الأبّ المؤسّس عبر زوجة مفضّلة (في الرحلات الخارجيّة، يُلاحظ في الاجتماعات المهمّة أن محمد بن زايد يكون محاطاً بعبدالله بن زايد وطحنون بن زايد، أشقائه من فاطمة بنت مبارك الكتبي). الجيل الثاني بسبب ذلك أكثر انغلاقاً وأقلّ مرونة وأضيق صدراً في تقبّل الآراء ووجهات النظر.
لا شكّ في أن الجيل الثاني من الحكّام العرب يأتي من خلفيّة أضيق من الجيل الأوّل؛ الجيل الأوّل تعلّم فن المفاوضات والمقايضة في السلالة والقبيلة وفي العلاقات الدوليّة. الجيل الثاني تسلّم تحالفات القبائل والدول على طبق من ألماس. وهذا الجيل يتّصف بالعنجهيّة والتكبّر، ربما لأنه أكثر تعلّماً من الجيل الأوّل. لكن تعليم الجيل الثاني ليس تعليماً تقليديّاً: محمد بن نايف لم يتخرّج في جامعة «لويس أند كلارك» (وخضع لدورات خاصّة في «إف.بي.آي.»)، وتركي بن فيصل بن عبد العزيز لم يكمل دراسته في جامعة جورجتاون، كذلك فإن الملك الأردني لا يحمل شهادة من الجامعة نفسها، وإن حضر مادة أو مادتيْن في برنامج خاص به. والملك عبدالله، حسب السيرة، تخرّج في كليّة «ساندهرست» البريطانيّة، وتخرّج فيها، حسب السيرة أيضاً، محمد بن زايد. لكن هؤلاء (مثل الملك حسين قبلهم أو خالد بن سلطان) لم يجنوا الشهادة الجامعيّة بالتحصيل. هؤلاء لا يخضعون للبرنامج العادي الجامعي للكليّة (التي تخرّج فيها «أبو موسى») بل يُعدّ لهم برنامج سهل ومختصر. لكن هؤلاء يتحدّثون الإنكليزيّة، وهي تشعرهم بالتفوّق (لفتت التقارير الأميركيّة المنشورة في «ويكيليكس» إلى أن محمد بن زايد كان دائم السخرية من حكّام السعوديّة بسبب أعمارهم).
صعد محمد بن زايد بسرعة مذهلة وهو يُعدّ لقيادة المنطقة العربيّة برمّتها ــ وبمساعدة أميركيّة ــ إسرائيليّة. لم يكن يوماً يكنّ إعجاباً بالنظام السعودي (والخلافات بين آل سعود وآل نهيان تاريخيّة، وقد حاول النظام السعودي تقديم أكبر رشوة في التاريخ ــ حتى رشوة صفقة «اليمامة» ــ إلى الشيخ زايد للتخلّي عن منطقة البريمي. ونصّ الاتفاق المتأخر حولها بين النظام السعودي والنظام الإماراتي لم يُنشر بكامله). والحكومة السعوديّة لم تتوّقف للحظة عن التدخّل في الشؤون الإماراتيّة، وهي موّلت (باعتراف «ويكيليكس») حاكم الشارقة الذي تلتزم إمارته بالمذهب الحنبلي (وليس المالكي على طريقة أبو ظبي).
كذلك فإن الخلافات بين النظام السعودي والإماراتي لم تخفت في السنوات الأخيرة، وأدّت إلى انسحاب الإمارات من الاتحاد النقدي الخليجي احتجاجاً على عدم اختيارها مقرّاً لـ«المصرف المركزي الخليجي».
قد يكون محمد بن زايد اليوم هو أقوى الحكّام العرب. هو عرف أن العلاقة النفطيّة لا تكفي من أجل بناء تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركيّة.
ما يريده هو نقل الدور الإسرائيلي في القيام بمهمّات الذراع الأمنية والاستخبارية للحكومة الأميركيّة. الحليف الأردني لم يعد ذا فائدة، ليس فقط بسبب قدرات ذهنيّة وسياسيّة محدودة جدّاً للحاكم الأردني، بل لأن التنطّح لسرقة القيادة الفلسطينيّة وتمثيلها من قبل الملك حسين عبر العقود تبخّر منذ الثمانينيّات. الملك عبدالله يشدّد على إنشاء وإعداد القوّات الخاصّة، لأن هذه هي التي تساعد القوات الأميركيّة في عمليّاتها العسكريّة (الاحتلاليّة) في المنطقة العربيّة. لكن محمد بن زايد يقدّم للحكومة الأميركيّة أكثر بكثير من الملك الأردني (بالإضافة إلى زعامة دحلانيّة تسرّ صهاينة الكونغرس)، كذلك فإنه لا يتطلّب نفقات خدماته على الطريقة الأردنيّة. وفي الموضوع الإسرائيلي، لم يعد الملك الأردني الحاكم الوحيد الذي ينسّق أمنيّاً وسياسيّاً مع العدوّ الإسرائيلي. تنقل وثائق «ويكيليكس» عن محمد بن زايد أن مواقفه في الصراع العربي ــ الإسرائيلي تخطّت المواقف «المعتدلة» للحكم السعودي. لا عدوّ له إلا إيران. وهو تعلّم من التجربة القطريّة فتخطّاها بأشواط.
إذا كانت الحكومة القطريّة قد تعاملت في سياستها الخارجيّة عبر التقرّب من واشنطن عبر البوّابة الاسرائيليّة والتطبيع المتدرّج، فإن الحكومة الإماراتيّة تجاوزت النموذج القطري بكثير. محمد بن زايد يريد أن يصبح الصنو العربي لدولة العدوّ الإسرائيلي. وإذا كانت الحكومة القطريّة قد تحالفت (بالتمويل المباشر) مع الجناح الديموقراطي من اللوبي الصهيوني (المتمثّل في مؤسّسة «بروكنغز» تحت قيادة مارتن إنديك)، فإن محمد بن زايد وزّع خطوط تحالفاته وتمويله على عدد كبير من المراكز والمؤسّسات الصهيونيّة التي تعنى بالسياسة الخارجيّة. هو استعان بالسفير النشط يوسف العتيبة (وهو ابن وزير النفط الإماراتي في السبعينيّات والثمانينيّات، مانع سعيد العتيبة، الذي تخصّص في جمع الشهادات على أنواعها، إضافة إلى «تأليف» ٣٣ ديواناً شعرياً، من المشكوك أنه ألّف قصيدة واحدة فيهم) لتوسيع النفوذ الإماراتي في واشنطن. في أسبوعٍ واحد مثلاً، اجتمع العتيبة أربع مرّات مع وزير الدفاع الأميركي. نادراً ما يحظى سفير دولة بهذا «الشرف» هنا.
العتيبة مثّل مشروع محمد بن زايد في التحالف الوثيق مع أكثر الجهات الصهيونيّة تطرّفاً في أميركا. والعلاقة بين يوسف العتيبة (الذي كان مستشاراً لسنوات لمحمد بن زايد) و«منظمّة الدفاع عن الديموقراطيّات» هي خير دليل على أفق محمد بن زايد السياسي. وهذه المنظّمة تأسّست متأخرة عن مثيلاتها في العاصمة: هي وليدة زمن ١١ أيلول وصعود تيّار المحافظين الجدد المتطرّفين. والمنظّمة مكرّسة للعداء للإسلام (تحت عناوين مختلفة) وضد إيران وسوريا وحزب الله و«حماس». وكانت المنظمّة قد اشتهرت في الوسط الصهيوني الأميركي عبر ربطها بين ياسر عرفات وأسامة بن لادن. وهي احتضنت وليد فارس مبكراً، كما احتضنت المتطرّفين من المحافظين الجدد الذين كانوا خارج السياق السياسي السائد. وكان الخبراء وحتى المسؤولون الأميركيّون، يتجنّبون الظهور في مؤتمراتها لما لها من سمعة متطرّفة في تعاطيها مع قضايا الشرق الأوسط. العلاقة الخاصّة بين العتيبة والمنظمّة تكشف ليس فقط صهيونيّة أولاد زايد، بل وتطرّف محمد بن زايد الصهيوني، وتمثّل ذلك في محادثاته التي تسرّبت في «ويكيليكس»، والتي اعتنق فيها بالكامل خطاب المحافظين الجدد ومصطلحاته، كأن يصف أحمدي نجاد بـ«هتلر». ولا ترد القضيّة الفلسطينيّة ــ ولا حتّى من باب رفع العتب ــ في أحاديث حكّام الخليج.
ومحمد بن زايد تعلّم كثيراً من تجربة موانئ دبي في ٢٠٠٦. حاولت شركة موانئ دبيّ تسلّم عقود إدارة ستة موانئ أميركيّة أساسيّة، وثارت ثائرة الرأي العام والصحافة بحجّة أن شركة عربيّة لا يمكن أن يوثق بها. وبالرغم من حثّ إدارة بوش لتمرير المشروع، وبالرغم من تذكير أعضاء الكونغرس بالخدمات الجليلة والكبيرة التي تقوم بها حكومة الإمارات للحكومة الأميركيّة (بعض هذه الخدمات شُرحت في جلسة سريّة لحساسيّتها الأمنيّة، وتسرّب منها أن المخابرات الأميركيّة تقيم أكبر قاعدة لها خارج أميركا في دبيّ، كذلك فإن ميناء دبي يستقبل أكبر عدد من السفن الأميركيّة خارج أميركا)، فإن اللجنة المختصّة في الكونغرس الأميركي صوّتت ٦٢-٢ لصدّ المشروع. وكيف تعامل محمد بن زايد مع الرفض الأميركي؟ برضوخ تام، وأمر ببيع شركة «موانئ دبي» لشركة أميركيّة.
علم محمد بن زايد (الذي لم يرد أن يقاوم الكونغرس كما فعل بندر بن سلطان في الثمانينيّات، عندما كان اللوبي السعودي واللوبي الإسرائيلي غير متحالفيْن) أن عملاً ينتظره في واشنطن لتغيير صورة دولته ونظامه وجناح عائلته. عندها بدأ الإنفاق الهائل على شركات علاقات عامّة ولوبيات ومراكز أبحاث. كذلك فإن السفير الإماراتي أقام علاقات خاصّة مع صحافيّين نافذين عبر دعوات أسفار عبر المحيطات في طائرات خاصة وفنادق فخمة (مَن قال إن صحافيّي الغرب هم بالضرورة أقل عرضة للإغراءات الماليّة من صحافيّي لبنان؟).
وأبرمت حكومة الإمارات اتفاقات مع شركات علاقات عامّة ولوبيات مثل «كيمب جولدبير» و«هيل أند نولتون» (والأخيرة مهمّة لأنها أدارت حملة الإعداد والتعبئة للحرب ضد العراق في ١٩٩٠، وهي التي كانت تدير وتُشرف على ظهور الصحافيّين العرب في الإعلام الأميركي، وهي التي أخرجت وأنتجت ظهور ابنة السفير الكويتي في لجنة استماع في الكونغرس حيث لم يُفصح عن هويّتها وأدلت بشهادة كاذبة عن رؤيتها لجنود عراقيّين ينتزعون الأطفال من أسرّتهم في مستشفيات الكويت)، و«كامستول جروب» (وهي مملوكة بالكامل من قبل حكومة الإمارات حسب دراسة محمد سعيد على موقع «الجزيرة») وغيرها من الشركات.
وأغدقت الإمارات الإنفاق على مراكز أبحاث مثل «اتلانتك كاونسل» (لا تزيد حصّة بهاء الحريري في المركز عن حصّة الإمارات)، وحتى «بروكنز» تفوّق التمويل الإماراتي على التمويل القطري فيها في سنة ٢٠١٦)، ومؤسّسة «راند» وخصوصاً مركز «الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة» التي أصبحت تقاريره ومقالات خبرائه تشبه مقالات الرأي في الصحافة الإماراتيّة، ومركز «أسبن» و«أميركان بروغرس» ومركز «ستمسن» و«معهد الشرق الأوسط» الذي تحوّل من نادي للمستعربين الذين ناطحوا اللوبي الإسرائيلي في الماضي إلى بوق لأنظمة الخليج لا يتطرّق أبداً نقديّاً للاحتلال الإسرائيلي (كما معظم المراكز). وأنشأت الإمارات مركزاً بحثيّاً خاصّاً بها («معهد دول الخليج العربي»). وهذه المراكز تعتمد دوماً على تجنيد مسؤولين أميركيّين سابقين (من الحزبيْن) مقابل مبالغ ماليّة طائلة. لم تكن شهادة روبرت غيتس أمام «مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطيّات» مجانيّة (لا تقبل المؤسّسة تمويلاً من حكومات لكن كل مموّليها الأساسيّين من عتاة الصهاينة هنا).
كان محمد بن زايد من أوّل المتطوّعين العرب لخدمة الغزو الأميركي لأفغانستان، كما أنه مثل باقي دول الخليج أعان الغزو والاحتلال الأميركي للعراق (من الطريف أن جنرالاً أميركيّاً حاول عبثاً إقناع ابن زايد بأنه يمكن للشيعي العراقي أن يكون مواطناً موالياً لوطنه وليس لإيران، حسب وثيقة من وثائق ويكيليكس»). وهذا الدور الأبرز الذي يريده محمد بن زايد في اقتفاء الأثر الإسرائيلي. ويتجلّى هذا من خلال عدد من الخدمات والمهمات:
أوّلاً، التطوّع بخدمات استخباريّة. تعاني دولة العدوّ من قصور في تقديم خدمات استخباريّة عن أعداء أميركا الحاليّين. هي كانت تجنّد منشقّين في الدول الشيوعيّة من أجل مدّ أميركا بالمعلومات الاستخباريّة. لكن اختراق المؤسّسات السوفياتيّة أسهل على اليهود السوفيات، مثلاً، من اختراق المنظمّات الجهاديّة الاسلاميّة. تقلّص نفوذ «الموساد في واشنطن. هنا يبرز دول المخابرات العربيّة. وعندما زهت الصحافة الصهيونيّة هنا بخبر اختراق إسرائيلي لمنظمّة «داعش» (حول خطة لها بنقل متفجّرات عبر حاسوب على الطائرة) تبيّن في ما بعد أن الاختراق لم يكن من قبل جاسوس بل عبر اختراق لجهاز حاسوب لمَن زعمت إسرائيل أنه عضو في «داعش»). والمخابرات الاردنيّة والمصريّة والإماراتيّة والسعوديّة ليست إلا فروعاً من فروع المخابرات الأميركيّة (المخابرات الأردنيّة هي جزء من محطة المخابرات الأم). لكن اندلاع الانتفاضات العربيّة في ٢٠١١ عرّض المخابرات الأميركيّة لانتقادات واسعة من الكونغرس، لأنها تراخت في القيام بمهماتها وأوكلتها إلى مخابرات عربيّة جهدت كي تنقل وجهة نظر النظام بصرف النظر إذا كانت قريبة من الواقع أو لا.
ثانياً، نشر النفوذ الإماراتي ومحاولة السيطرة على حكومات في عدد من الدول العربيّة بغية تسويق النفوذ للحليف الأميركي. لقد سعت الإمارات عبر السلاح والمال كي تنشر نفوذها في فلسطين والمخيّمات الفلسطينيّة في الشتات (عبر وكيلها محمد دحلان ــ قد يكون الفلسطيني الأكثر شعبيّة… في دولة الاحتلال)، وفي تونس (بالمال)، وفي ليبيا (عبر التدخّل العسكري والمال)، وفي مصر (حتى عندما نشب خلاف بين السيسي والحكم السعودي)، وفي اليمن (حيث تسعى الإمارات إلى إنشاء كيان موال لها في الجنوب، في تحدٍّ واضح للحكم السعودي الذي يعتبر اليمن ــ بشماله وجنوبه ــ من حصّته). تريد دولة الإمارات أن تصبح القوّة الضاربة (بالنيابة عن أميركا) في المنطقة العربيّة.
ثالثاً، رفع مستوى التحالف مع العدوّ الإسرائيلي وخفض سقف شروط السلام معه. تذكر وثائق «ويكيليكس» أن سقف القبول الإماراتي بالسلام مع العدوّ هو أقلّ من شروط «المبادرة السعوديّة»، لكن الإمارات تسير معها ربّما لمنع تفاقم الخلاف مع السعوديّة.
رابعاً، ضرب الفكر التقدّمي والثوري عبر الترويج الهائل لنموذج «الإمارات»، والاعتماد على شركات علاقات عامّة أميركيّة وأوروبيّة لإقناع الشباب العربي بأن اليوتوبيا العربيّة تكمن هناك. ولا يمرّ يوم لا يرد فيه ذكر للإمارات في تراتبيّات وتصنيفات فارغة تبدو برّاقة من الخارج لكنها رجعيّة من الداخل، مثل تراتبية «التنافسيّة»، وهي لا تعني إلا التطرّف في تطبيق النموذج الرأسمالي المتفلّت والترحيب المطلق بالرأسمال الغربي، إضافة إلى هضم حقوق العمّال والفقراء. والنموذج الإماراتي يعتمد على إعلانات سطحيّة من نوع «وزارة السعادة» و«وزارة التسامح» (وهذه الأسماء مترجمة عن الإنكليزيّة على الأرجح)، لكن ليس هناك من تنويه بقوانين تحكم على المواطن بالسجن لخمس عشرة سنة بسبب تغريدة «تعاطف» مع قطر، مثلاً، أو سجن الصحافي الأردني تيسير النجّار بسبب انتقاده موقف حكومة الإمارات من حرب غزّة الأخيرة.
خامساً، يكمن طموح ابن زايد في التنطّح للعب دور إسرائيل في الأدوار القذرة لليد الأميركيّة الضاربة في الشرق الأوسط وخارجها (الدور الإماراتي في أفغانستان خير دليل، ويشكو محمد بن زايد للأميركيّين (في وثائق «ويكيليكيس») من تمنّع دول أخرى مثل السعوديّة عن المشاركة).
سادساً، وهو الأهم، يريد محمد بن زايد أن يصبح الحاكم الفعلي للعالم العربي من خلال السيطرة على الحكم في السعوديّة. وهو تضامن مع متعب بن عبدالله في محاولة (فاشلة) لتسلّم الحكم بعد وفاة والده، وينقل عنه «مجتهد» أنه يشتري أمراء آل سعود للتحكّم فيهم. لكن ابن زايد سرعان ما نقل رهانه إلى محمد بن سلمان، وهو جنّد جهازه في واشنطن من أجل إقناع الإدارة الأميركيّة بجدوى نقل الثقة الأميركيّة من ابن نايف إلى ابن سلمان.
هذه مرحلة جديدة في التاريخ العربي المعاصر. التنافس أو الصراع مع إسرائيل لم يعد في وارد الأنظمة. التنافس بين الأنظمة العربيّة النافذة يكمن في القدرة على التقرّب من إسرائيل، وفي تقليد دورها التاريخي في خدمة المصالح الأميركيّة، أي إن النظام العربي الرسمي القادم هو إسرائيلي بعباءة عربيّة. والتنافس بين آل سعود وآل زايد على أشدّه من أجل أن تكون تلك العباءة خاصّة بهم.
خليك معنا