الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
مثلت الفترة التاريخية للوجود العثماني الأول في اليمن (1538-1635م) مرحلةً هامةً في التاريخ اليمني الحديث، حيث ارتبطت تلك الفترة بأحداثٍ سياسيةٍ، نتيجة تصادم العثمانيين باليمنيين، وخاصة (بالأئمة الزيديين، والذين تمكنوا بالتالي من قيادة الثورات الوطنية حينذاك ضد العثمانيين، مما ساعدهم في النهاية على أن يلعبوا الدور الرئيسي في تاريخ اليمن).
كانت أهم وأقوى الزعامات اليمنية التي سيطرت على أقاليم اليمن الداخلية، وهي بذلك تعد القوة السياسية والعسكرية التي واجهت العثمانيين في اليمن منذ فتح سليمان باشا الخادم للسواحل اليمنية سنة 944ه/1538م. والتي كان لها زمام المبادرة في قيادة الثورات الوطنية -حينذاك- ضد الوجود العثماني. الأمر الذي أدّى في النهاية إلى خروج العثمانيين من اليمن عام 1044ه/1635م.
وباستقراء مجريات الأحداث لتلك الفترة، يتضح أن العلاقة بين هاتين القوتين -الزيدية والعثمانية- قد اتخذت طابع الحرب أو السلم، إلا أنه غلب عليها -عموماً- طابع الحذر والتوتر، وهو ما كان يؤدي قطعاً إلى قيام الاحتكاك بينهما. حيث أولى العثمانيون عنايتهم الفائقة في إيجاد عمق استراتيجي لهم في داخل اليمن، كان من شأنه حماية ثكناتهم على السواحل اليمنية والتي تعد القاعدة الإستراتيجية، مكنتهم -فيما بعد- من مد سيطرتهم إلى باقي أنحاء اليمن، إضافة إلى أنها مثلت قاعدة للإمداد العسكري للقضاء على أية أخطار تهدد قواتهم في داخل البلاد. فيما كان يرى الزيديون أن العثمانيين باتوا يشكلون العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكنهم من بسط نفوذهم على امتداد رقعة اليمن.
ولعل حقيقة تبرز لقارئ الأحداث لتلك الفترة -لا مناص منها- تؤكد أنه كان من الصعب القضاء على الزعامة الزيدية بشكل جذري في البلاد. ومرد ذلك يعود إلى انتشار المذهب الزيدي بين هؤلاء من جانب، وإلى موالاة والتفاف الأهالي حول تلك الزعامة للوقوف في وجه العثمانيين من جانب آخر.
ولقد مثل الإمام شرف الدين يحيى قوة الإمامة الزيدية، والتي كانت الكيان السياسي والعسكري – في ذلك الوقت – الذي واجه العثمانيين خلاف تقدمهم لبسط سيطرتهم داخل اليمن (944ه/1538م) وابتداء من هذه الفترة التي تولى قيادتها الإمام شرف الدين.
تنسحب الأحداث التاريخية الكبرى وزمام المبادرة من المناطق الجنوبية السهلية لليمن لتتركز في الجهات الجبلية الشمالية بزعامة الأئمة الزيديين وأتباعهم في اليمن الأعلى ، وإلى جانب عدد كبير من الأئمة الطامحين تمكنت فقط أسرتان من الأسر الهاشمية من تحقيق السيادة والنفوذ ، وإن كان ذلك بشكل متقطع ، وبين وهن وقوة ، هما: أسرة شرف الدين، وأسرة آل القاسم. وفي فترة الوجود العثماني الأول في اليمن كان الإمام شرف الدين وابنه المطهر رجلا المرحلة ، فخاضا حرباً ضروساً ضد العثمانيين إلا أنه قد: “ارتكب خطأين كبيرين أثرا تأثيراً كبيراً في انهيار حكومته أولهما تقسيم ممتلكاته بين أبنائه العديدين في سنة 947ه/1541م، وثانيهما جعله ولاية العهد لابنه علي دون ابنه الأكبر [والخطير] وهو المطهر.
ولقد كان لهذين العاملين أثرهما البالغ في إثارة روح العداء والتناقض بين الأخوة، مما أدى إلى تفكك وضعف أسرة الإمام شرف الدين، وهو الأمر الذي أفضى في النهاية إلى تفتت السلطة الزيدية في اليمن. حيث أثارت خطوة الإمام شرف الدين -الآنفة الذكر- حفيظة المطهر إلى درجة أنه خرج عن طاعة أبيه، وقاوم بإثارة اليمنيين والعثمانيين على السواء ضد حكمه.
ولم يكن الأمر أوفر حظاً بالنسبة للمناطق الجنوبية التي كانت تخضع لنفوذ أسرة شرف الدين، فقد انعكست الخلافات القائمة في محيط الأسرة، على الأوضاع في تلك المناطق. إضافة إلى فساد ولاة وعمال -آل شرف الدين- هناك كان من جملة الأسباب التي أدت إلى سقوط تلك المناطق في قبضة العثمانيين وإلى انهيار الحكم الزيدي فيها.
وعندما شعر الإمام شرف الدين بالخطر الماثل أمامه -المتمثل بسيطرة العثمانيين على المناطق الجنوبية وبداية تقدمهم نحو الشمال – رأى من الضرورة بمكان إعادة توحيد جبهته لصد تقدم تلك القوات. وحينئذ لم يكن أمامه سوى قبول شروط الصلح مع ابنه المطهر، لعل أعظمها وأهمها أن تكون السلطة في يده -أي المطهر- وفي تسليم مقاليد الحكم له. وبذلك استطاع المطهر أن يتسنم مقاليد الأمور في البلاد، وأن يقود الثورة ضد الوجود العثماني، وطردهم من جميع جهات اليمن، ما عدا زبيد وميناء المخا.
وفي الحقيقة أن تقهقر العثمانيين بهذا الشكل -الملفت للنظر- وانزوائهم في الأخير في المنطقتين الآنفتين الذكر، لم يكن ليحدث لولا بروز عدد من العوامل، أدت في نهاية المطاف إلى انهيار السيطرة العثمانية في اليمن، أرجعها ذلك المؤرخ المعاصر للأحداث، إلى: “ضعف أوضاع العثمانيين السياسية والعسكرية والمالية، إضافة إلى عدم اهتمام الولاة برعاية شؤون الأهالي. وكذلك تقسيم البلاد إلى ولايتين” إلى جانب ما قاساه الأهالي من شدة الأعباء المالية الملقاة على كواهلهم. كان من شأنه أن أدى إلى تذمر هؤلاء -الأهالي- وانضوائهم المتسارع تحت قيادة المطهر.
وكان لشخصية المطهر وإرادته القوية وحنكته السياسية والعسكرية ونجاحه في الحفاظ على وحدة الجبهة الزيدية، تحت زعامته الأثر الكبير في نجاح الثورة ضد العثمانيين. وباستقراء دقيق لأحداث تلك الفترة، بحسب ما هو متوفر من مصادر شحيحة -لمجرياتها- نجد أن ثورة المطهر، لم تكن نهاية المطاف بالنسبة للوجود العثماني في اليمن. وكنتيجة حتمية لقوة الدولة العثمانية -حينذاك- ولاهتمامها الواضح بولاية اليمن، التي أصبحت منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي بمثابة خط الدفاع الإمامي بالنسبة لحوض البحر الأحمر، فقد حرص العثمانيون على أن يكون لهم موضع قدم في المنطقة، لإغلاق هذا المنفذ البحري، وبالذات ميناء عدن أمام الخطر البرتغالي. الذي كان يهدد العالم العربي، بل والدولة العثمانية بشكل عام.
ولذلك كله -كما أشرنا آنفاً- فقد أرسلت الدولة العثمانية حملة كبيرة إلى اليمن، تحت قيادة سنان باشا في عام (977ه/1569م ) استطاعت أن تعيد سيطرتها مرة أخرى على البلاد. وبوفاة المطهر في رجب عام (989ه/1572م) انهارت سيطرة أسرة الإمام شرف الدين، إذ لم يستطع أولاده من بعده المحافظة على وحدة كيانهم، نتيجة لبروز الخلافات فيما بينهم، بشأن الاستئثار بالسلطة والنفوذ و:”ثبت كل واحد منهم على ما تحت يده في البلاد. حيث كان المطهر قد ولاّهم على الأجزاء المختلفة من ممتلكاته قبل وفاته بمدة غير قصيرة.
وكنتيجة حتمية لتلك الخلافات، فقد شهدت المناطق الشمالية اندلاع العديد من الحروب العنيفة بين أمرائها، مما أدى بالتالي إلى ضعف مراكزهم أمام العثمانيين. بل وأكثر من ذلك مهدت الطريق أمام القبائل لإعلان تمردها وخلافها ضد حكامهم. وبهذا افتقدت اليمن -حينذاك- إلى شخصية قوية باستطاعتها قيادة الثورة من خلال إذكاء روح المقاومة في أوساط الأهالي الساخطين ضد الوجود العثماني. وعلى الرغم من قيام بعض الأشراف بالدعوة لأنفسهم، وإعلان الثورات ضد الحكم العثماني، إلا أنها -أي الثورات- لم تكن على نطاق واسع في المناطق الشمالية نتيجة الأسباب التي ذكرناها آنفاً، مما سهل بالتالي على العثمانيين القضاء عليهم .وشهدت اليمن نوعاً من الاستقرار خلال تولي حسن باشا شؤون الحكم فيها، والتي امتدت إلى حوالي خمسة وعشرين عاماً (1580ـ1605م) استطاع خلالها من فرض سيطرة عثمانية قوية على المناطق الشمالية حين شرع في: “إقامة بديل زيدي -عثماني، ضمن إطار نظام حكم الولاية المركزية- ضم في نطاقه عدداً محدوداً من الأمراء الزيديين.
وساعده على ذلك ضعف أمراء المناطق الشمالية نتيجة كثرة الحروب في ما بينهم إضافة إلى أنه استغل تضارب المصالح بين الزعماء الزيديين أنفسهم وعمل على توسيع الهوة بينهم؛ حتى لا يحاول هؤلاء -رغم خلافاتهم- تكوين جبهة قوية للوقوف ضده.ويتضح أن حسن باشا قد قلص من نطاق نفوذ أسرة الإمام شرف الدين بوجه عام. وذلك بعد أن أنهك قواهم العسكرية وتأكده من عدم مساندة الأهالي لهم. ولتوطيد السيطرة العثمانية في اليمن، عمد حسن باشا أيضاً إلى تقرير رواتب شهرية للأمراء من آل الإمام شرف الدين، وآل المؤيد، وأشراف الجوف، والذي كان لهم نفوذ في الشمال، بعد ضمان طاعتهم وخضوعهم التام للدولة العثمانية.
ورغم تلك الإجراءات فلم يتمتع الحكم العثماني بالاستقرار طويلاً إذ ظهر إماماً جديداً، وهو الإمام القاسم بن محمد [1006هـ/1597م] الذي أشعل الثورة مرة أخرى على العثمانيين، وبدأ يبسط سيطرته على المناطق الشمالية. ويعلن مرحلة جديدة من مراحل الكفاح الوطني ضد الوجود العثماني. الذي توج في نهاية المطاف بخروجهم من اليمن عام 1635م على يد خلفه ابنه الإمام المؤيد بالله محمد.
ظهرت دعوة الإمام القاسم في مناطق الشمال، وبالتحديد في منطقة القارة جنوب صعدة سنة (1006هـ/ 1597م). وكما وصفه المؤرخون بأنه قام “بلا رمح يملكه، ولا صارم يقضب به، ولا معاون ولا نصير إلا الله الملك القدير”. لكن الإمام القاسم لم يدعُ لنفسه إلا بعد دراسة ودراية لما حوله من الأحداث، وخلو الساحة اليمنية من شخصية قوية تحمل زمام هذه المبادرة، خاصة بعد أن عمد العثمانيون على احتواء جميع رجال آل شرف الدين تحت سيطرتهم، كما سبق أن ذكرت. أعلن القاسم دعوته للإمامة بأهداف محددة، وهي الحث على الثورة، وعدم الخضوع للحكم العثماني، نظراً لفساد حكمهم وخروجهم على مبادئ الدين.
واعتبرت ثورة الإمام القاسم ثورة اجتماعية تلبي مطالب اليمنيين الاجتماعية والسياسية.
ويتضح لنا أن العديد من الظروف الخارجية ساعدت على نجاح ثورة الإمام القاسم، وعلى ضعف السيطرة العثمانية في اليمن في نفس الوقت، فقد واجه العثمانيون ثورات في جبل لبنان، ودخلوا في حرب طويلة مع الفرس، وتناوب العثمانيون والفرس النصر والهزيمة من أجل السيطرة على العراق، واتخذ السلطان مراد الرابع عدة من التدابير، كان أهمها التخلص من الانكشارية المتمردين، لما كانوا يسببونه من الضرر للدولة، وبالتالي أهملت السلطنة العثمانية شؤون اليمن. ونتيجة لتلك الظروف تقهقر النفوذ العثماني في اليمن، وتمكنت قوات الإمام القاسم من حصار الجنود العثمانيين في المناطق التهامية، ووصل نفوذ الإمام القاسم إلى صنعاء وكل المناطق الشمالية. إلاّ أن تلك الانتصارات ونجاح ثورة الإمام القاسم لم يكن بالأمر الهين، فلم يتم له ولأسرته ذلك إلا بعد أربعين عاماً من العقبات والانتكاسات العسكرية والسياسية.
ومرت ثورته تلك بخمس مراحل، ، كانت بدايتها سنة (1006هـ/1597م)، إلا أن هذه الفترات تخللتها فترات من الانتصارات والهزائم والهدنة والصلح، على فترات، حتى وفاته سنة (1029هـ/1620م). إلى أن تم خروج العثمانيين سنة (1054هـ/1635م).وقد كانت الدعوة القاسمية في بدايتها دعوة سرية، حاول الإمام القاسم التنقل في مختلف المناطق اليمنية ، يستجمع آراء العلماء والشخصيات القبلية، ويحشد حوله الأنصار والقبائل، لكن أخباره بلغت الأتراك فخافوا جانبه، وأرادوا القبض عليه، لكنه توارى عن الأنظار رغم جدِّهم في التجسس عليه، واجتهادهم في تتبعه. فبقي الإمام القاسم على حاله تلك بضع سنين، عكف خلالها على الدرس والتأليف، حيث ألَّف العديد من الكتب في الفقه والتفسير، كان أهمها كتاب الأساس في أصول الدين.
ظلَّ الإمام القاسم يتنقل بين القرى والجبال والمدن المختلفة، مما بعث في قلوب العثمانيين الفزع والخوف من ظهوره، خاصة بعد ما لمسوه من اليمنيين من الهيبة والتعظيم والفخامة، تجاه شخصية الإمام القاسم، كشخصية علمية قوية برزت بين أوساط المجتمع اليمني في مختلف مناطق اليمن الشمالية، حتى داخل صنعاء نفسها. رغم أنه حتى هذه الفترة لم يكن حوله من الأنصار سوى القليل من العلماء ومشائخ القبائل، تناصره وتعاضده من على بُعد، من خلال بث الرسائل والمواعظ والمقابلات السرية التي كان الإمام حريصاً على حضورها في الجوامع. وقد عبَّر مؤرخ سيرته بقوله: “ولا ظهر له في قتالهم روحة ولا عدوة، ولا هو من أهل المال، فيكثر بماله أعوانه، ولا قوة عشيرة، فيعظم سواده”، ولعلَّ السبب في انتشار أخباره بين الخاصة من العلماء والأعيان، والعامة من القبائل، يرجع إلى تنقلاته المختلفة، وعلمه الغزير، وقوة حجته في إقناع الناس عن أهداف دعوته وثورته ضد الظلم العثماني.
وتذبذب الولاء والمناصرة للإمام القاسم في جميع مراحل ثورته من قبل اليمنيين ورؤساء القبائل بحسب قوة وسيطرة الوالي العثماني أو ضعفه، وأيضاً لوقوف ومناصرة آل شرف الدين في بداية الأمر للدولة العثمانية، ومحاربتهم الإمام القاسم. وبعد القبض على أقوى أمرائهم وهو عبد الرحيم بن عبد الرحمن، ونفيه خارج اليمن، انضم بقية آل شرف الدين إلى معسكر الإمام وحاربوا معه ضد الدولة العثمانية. ومُنح الإمام القاسم في نهاية المطاف الحق في إدارة المناطق التي توسع فيها بمساعدة محمد والحسن والحسين، ورجال آخرون من مختلف فئات المجتمع اليمني الذين آمنوا برسالته، ووقفوا إلى جانبه.
ودلَّ طول الصراع وضراوته على مدى قوة سيطرة الدولة العثمانية في بداية الثورة، ولكن بعد ذلك آل الأمر إلى هزيمة القوات العثمانية، واندحارها حتى تم خروجها من اليمن في عهد ابن الإمام القاسم، المؤيد محمد بن القاسم سنة (1045هـ/1635م).
وإن جاز لنا تصوُّرُ خارطة تفصيلية تبين حدود نفوذ الدولة القاسمية قبل وفاة الإمام القاسم، حين تم الاتفاق، والصلح بينه والوالي محمد باشا. فقد كانت جميع المناطق الشمالية تحت نفوذ الإمام القاسم من بني غُربان وعَسَمْ والمُسيجيد، وبني مالك، ومن وادعة في أقصى الشمال، وبني قَيْس وبني صَرْيم، وكل المناطق المحاذية لها حتى حدود بلاد نِهمْ وما وراءها من بني جُديْلة والشَرَفَيْن، وكذلك جهات الحيمة وبني مطر، وجميع مناطق جهات آنس جنوب صنعاء. أي كل المناطق الشمالية والشمالية الشرقية، والمناطق الغربية من صنعاء، وبعض المناطق الوسطى جنوب صنعاء والمحاذية لذمار، (وسأضع خريطة توضيحية بهذا ضمن الملاحق).
وتم الاتفاق والصلح بين الطرفين العثماني واليمني على مناطق نفوذ كل منهما، ونص ذلك الصلح المبرم على فترة عشر سنوات هدنة، توفي الإمام القاسم في نهاية السنة الثانية من الصلح بعد أن قام بدور بارز في محاربة الأتراك، حتى تحقق الاعتراف به في المناطق الشمالية، ليكون ذلك نواة الدولة الزيدية في العصر الحديث الذي اتسع فيها حكم آل القاسم من بعده، ليعم كل اليمن. كما خلف الإمام القاسم عدداً من الأبناء ساهموا وشاركوا في تلك الحروب، وفي وضع اللبنات الأولى لبناء الدولة القاسمية، حكم منهم اثنان من بعده، وساهم آخرون في عهده وبعد موته في الحياة السياسية والحربية، وجمع بعضهم كالحسين بن القاسم بين العمل العسكري والتأليف العلمي والفقهي.
تسلَّم الابن الأكبر للإمام القاسم، المؤيد محمد بن القاسم، زمام الأمور بعد وفاة والده، وقد تميز بداية عهده بالهدوء والاستقرار، وتوقف الحروب بين العثمانيين واليمنيين، ويرجع ذلك للاتفاق المبرم بين الوالي محمد باشا، والإمام القاسم.
تغيَّر الموقف السياسي والعسكري بين الطرفين، واتضح تغيُّر ميزان القوى بالنسبة للطرفين العثماني واليمني، فقد كان الحكم الإمامي يمثل الجديد القابل للنمو والامتداد، بينما الحكم العثماني يمثل القديم المثقل بالأعباء والأخطاء معاً. وكانت صفوف اليمنيين تتمتع بالوحدة تحت زعامة الإمام المؤيد، بينما كانت المنازعات والانقسامات بين صفوف العثمانيين تضعف من شأنهم.
وقد تفرغ الإمام المؤيد محمد بن القاسم بعد ذلك، كما سنرى لاحقاً لإدارة دولته، وتنظيم جيوشه، وتدبير موارد دولته، استعداداً للنهضة-كما ورد عند الجرموزي-أو المرحلة الأخيرة من الصراع مع العثمانيين، حتى تم انسحابهم من اليمن سنة (1045هـ/1635م). ولتكون بذلك اليمن أول ولاية عربية تخرج عن فلك الدولة العثمانية، ولقد تولى من بعد الإمام المؤيد محمد زمام الحكم في اليمن أخوه الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1054-1087ه/1644-1676م) ، والذي قام بتجهيز الحملات على المناطق الشرقية من اليمن والتي خرجت قبل ذلك مستغلة حالة الضعف والاقتتال بين الأئمة، كما وصلت قوات الإمام إلى يافع لإخضاعها ثانية، وعندما علم الكثيري سلطان حضرموت بما حل بأهل يافع راسل الإمام معلنا الدخول في طاعته، كما دخلت في طاعته جهات ظفار الحبوضي الواقعة اليوم في بلاد عمان. وبهذا الامتداد باستثناء مكة يكون اليمن قد توحد من أقاصي الجنوب والشرق إلى أقاصي الشمال، كما كان الحال أيام الرسوليين والصليحيين ، ونلفت الانتباه إلى أن سبب غياب ذكر بلاد المهرة في الشرق وبلاد عسير بمدنها في الشمال راجع إلى أن بلاد المهرة كانت جزءاً من حضرموت، مثلما كنت بلاد عسير ومدنها تابعة لصعدة كمركز ديني وإداري .وقد شهد حكم المتوكل على الله إسماعيل الممتد لثلاثين عاماً في معظمه قدراً من الاستقرار السياسي مكن من ازدهار الزراعة والتجارة والفكر والثقافة ليستحق بعدئذٍ وصف المؤرخين له بأنه أفضل عصور اليمن الحديثة على الإطلاق.
وخلف المتوكل إسماعيل في سُدَة الإمامة اثنين من أسرة آل القاسم هما: أحمد بن الحسن الملقب بـ(سيل الليل)، ومحمد بن المتوكل والذي امتد حكمهما لعشر سنوات، ثم اعتلى الحكم طامح جديد من أبناء الجيل الثالث هو محمد بن أحمد بن الحسن المعروف بـ(صاحب المواهب)، نسبة إلى قرية قرب ذمار كان قد اتخذها مقراً لحكمه. وفي زمن صاحب المواهب هذا شهدت اليمن حالات متتابعة من الحروب والانقسامات داخل بيت القاسم لأكثر من ثلاثين عاماً سببها الطموح إلى السلطة والنفوذ وخيراتهما، وقد شكل مبدأ الخروج على الظلم كما يرى المذهب الزيدي غطاءً شرعياً لتحقيق تلك الطموحات في النفوذ والسلطة، وقد أراقت تلك الحروب كما أسلفنا كثيراً من الدماء وأهلكت كثيراً من الزرع والضرع ، وبعد صاحب المواهب عرفت اليمن سلسلة من الأئمة من بيت القاسم وشهد هؤلاء طموحات أئمة آخرين تفاوتوا في القوة والضعف وإحراز المكاسب، بالإضافة إلى تمردات القبائل ، ثم اعتلي عرش السلطة المهدي عباس بن المنصور 1161–1189م الموافق 1748– 1775م وهو الإمام العاشر، وقد تميز المهدي بكفاءات وقدرات أهلته لإعادة مركزية الدولة وحكم معظم مناطق اليمن من صنعاء العاصمة كل الربع الثالث من القرن الثالث عشر الهجري -الثامن عشر الميلادي، ولا يعني هذا أن أحداً لم يخرج عليه، ففي تاريخ الأئمة كان هناك على الدوام من لا يعترف بحكم الإمام المبايع فيدعو لنفسه، بل هناك أئمة يدعون لأنفسهم ، وإلى جانب طموحات الأئمة ، شهد حكمه غارات القبائل على أنحاء من تهامة واليمن الأسفل بقصد السلب والنهب، فعاثت فساداً في الديار الآمنة. لكن الإمام المهدي تمكن بالسياسة حيناً وبالقوة أخرى وبمعاونة أهل العلم وأبرزهم في زمانه وأكثرهم نشاطاً علمياً وسياسياً في سبيل العلم والناس العلامة ابن الأمير المتوفى 1182هـ/1768م والإمام المهدي هذا هو الذي زاره الرحالة الألماني كارستن نيبور عام 1177 هـ/ 1763 م ووصف هيئته ومجلسه الفخم وحاشيته. والمهدي أيضا هو الإمام الذي وصفه الشوكاني رغم إعجابه به، بالفردية والاستبداد، كما اشتهر بنهمه للأرض حتى سطا على أملاك الأوقاف وصير غيولاً تاريخية كالغيل الأسود وغيل البرمكي ملكاً خالصاً له.
وتكاد الفترة الباقية من تاريخ اليمن ، أي من وفاة المهدي حتى قدوم الأتراك للمرة الثانية لا تختلف عن سابقتها لا في طبيعة الحكم فيها ولا في طبيعة الأحداث ، فبينما استمر الانقسام والاقتتال بين الطامحين في السلطة من الأئمة، استمرت القبائل كذلك في نصرة من تأنس فيه السيادة لتفوز معه بخيرات السلطة والحكم ، وفي حالات كثيرة كانت القبائل تستقل بتمرداتها لنفسها متى ما آنست ضعفاً في السلطة المركزية إلى حد محاصرتها للعاصمة صنعاء ، كما أفسح المجال لطامحين آخرين باسم الصوفية أو إقامة الشرع للحصول على مناطق نفوذ تتسع وتنكمش حسب علاقات القوة المتغيرة باستمرار .
وبسبب الضعف الذي آلت إليه الأمور فقد الأئمة كثيراً من المناطق في المخلاف السليماني بعاصمته أبى عريش وبعض تهامة اليمن لصالح الدولة الوهابية السعودية الأولى ، ثم فقدت بعدئذٍ لصالح محمد على باشا في مصر، وهو الذي جاء بقواته إلى الجزيرة للقضاء على دولة الوهابيين السعودية وليوحدها تحت حكمه فوصلت قواته إلى تهامة في اليمن 1220 –1265 هـ/ 1805- 1848 م ، وقد دفع توسع محمد علي وطموحه في التوحيد بريطانيا إلى احتلال عدن لصد طموحات محمد علي ولتأمين الطرق البحرية إلى الهند درة التاج البريطاني كما كانت تسمى ، وقد سلم محمد علي ـ بعد تكالب الأوربيين عليه وهزيمته ـ جميع ذلك بعد انسحابه 1256 هـ/ 1840 م لحلفائه أشراف المخلاف السليماني بزعامة الشريف حسين بن علي حيدر وحلفائهم في عسير من آل عائض ، وقد عاصرت هذه الأوضاع طموح آخر الأئمة الذي سيفقد اليمن في عهده استقلاله لصالح بريطانيا والأتراك العثمانيين وهو محمد بن يحيى الملقب بالمتوكل، فقد أقام علاقات طيبة أول الأمر مع القوات المصرية في تهامة ، وبعد رحيلها ذهب إلى مصر باحثاً عن عون عسكري يدخل به صنعاء، ولما كانت الأمور قد تغيرت في غير صالح محمد علي عاد الطامح محمد بن يحيى خالي الوفاض ، لكنه يمم وجهه شطر أشراف المخلاف السليماني الذين كانوا قد استقروا بجهاتهم ضد رغبة السلطة في صنعاء، بل وحدوا من سلطتها بتوسيع أملاكهم في كل تهامة اليمن حتى أن الميناء الحيوي (المخا) كان واقعاً تحت سيطرتهم ، وفي وقت لاحق حاولوا الوثوب على عدن لطرد الإنجليز منها، وقد قام الشريف حسين بن علي حيدرة بدعم طموحات محمد بن يحيى المتوكل كي يخلق لنفسه شرعية في السيطرة على المناطق التي تحت يده وليتمكن من التوسع في إقليم اليمن في كل الجهات لو قدر على ذلك مثله مثل أي قوة يمنية أخرى مرت بنا قبلاً، أمد الشريف حسين الطامح محمد بن يحيى المتوكل بالأموال والعتاد مما مكن المتوكل فعلا من هزيمة الإمام المهدي ودخول صنعاء إماماً جديداً ، لكن هذا الحلف مع أشراف المخلاف السليماني لم يلبث أن انهار لتصادم مصالح الطرفين خاصة وخزانة الإمام المتوكل خاوية بفعل سيطرة الشريف حسين على الموانئ المدرة للمال، فقامت لذلك حرب بين الطرفين اشتركت فيه القبائل اليمنية في عسير ويام وهمدان وباجل وغيرها مدفوعة في الغالب برغبات في الحصول على الأموال، وبعضها ليحمي استقلاله ومنطقته من أطماع هذا فيحتمي بذاك كما فعلت قبائل باجل مثلا، وقد كانت وعود الحصول على الأموال وتوزيع الموجود منها على القبائل في الطرفين عاملاً حاسماً في مواقف القبائل من الفريقين. وقد دارت الدائرة أول الأمر على الشريف حسين وأسر، لكن فُك أسره بعد ذلك فيما كان الإمام المتوكل يحاول الخروج من تطورات الوضع العسكري في تهامة والذي أدى إلى حصره هناك، لكنه تمكن بالحيلة والوعود الكاذبة من الوصول إلى صنعاء تاركا تهامة ثانية في يد الشريف حسين . ثم واجهته صعوبات القضاء على طامحين جدد في صعدة وذمار ادعيا الإمامة مسنودين من قبائل غاضبة على الإمام المتوكل، وهكذا يبدأ فصل جديد من فصول التنافس الدموي بين الأئمة على السيادة والنفوذ والأحقية، كل هذا يحدث والأتراك العثمانيون في الحجاز على مقربة منه يسمعون ويتابعون، وقد دفعت المصالح المتضاربة والمواجهات الأولى بين الإمام المتوكل والشريف حسين من جهة وبين الأخير وجاره أمير عسير محمد بن عائض المتحالف مع المتوكل، دفعت الشريف حسين إلى دعوة السلطات العثمانية لتدخل تهامة، فصدرت الأوامر لوالي الحجاز بقيادة جيش لدخول تهامة، فدخل الجيش الحديدة عام 1265 هـ/1849 م بالتعاون مع الشريف حسين، وقد رأى الإمام المتوكل أن من الحكمة أن لا يترك خصمه يستأثر وحده بعلاقات ودية مع الأتراك، فقرر هو الآخر أن يظهر حسن نواياه تجاههم، وقد ذهب في ذلك إلى حد أنه دعاهم لدخول صنعاء ثانية، وقنع بمرتب شهري يؤدونه له وأعلن في الناس أن أمرهم قد صار إلى الأتراك العثمانيين، وأمام هذا الوضع الجديد والغريب في آن يرسم اليمنيون نقطة مضيئة في تاريخهم ، فقد وقفت القبائل اليمنية موقفا وطنياً وأظهرت غيرتها على الأرض والعرض ، خاصة وأن الأجيال كانت ما تزال تروي فضائع العثمانيين في حملتهم الأولى وبطولات الأسلاف في مقارعتهم الطعان وطردهم من اليمن التي انتزعت بجدارة لقبها المعروف ” مقبرة الأناضول “.
تصدى سكان صنعاء وكافة القبائل المجاورة والقادمة للأتراك فضيقوا عليهم الخناق وقتلوهم في الأسواق حتى أنهم لم يتمكنوا من الخروج لشراء حاجياتهم وظلوا محصورين في ثكنتهم ينتظرون الفرج، ومن جانب آخر كان الناس يطاردون الإمام المتوكل لقتله وينعتوه بالخيانة وقد خلعوه وبرئوا منه وعينوا مكانه الإمام المهدي ، وهو نفس الإمام الذي انهزم أمام المتوكل قبل ما يزيد قليلا عن الأربع سنوات، ويقوم الإمام الجديد بالقبض على المتوكل وقطع رأسه ثم فاوض الأتراك في كيفية الخروج من صنعاء إلى الحديدة بأمان ليستقروا هناك، فخرجوا خاسئين منكسي الرؤوس يوم عيد الفطر ، الأول من شهر شوال 1256هـ/18 أغسطس 1849م، فكان هذا الخروج الذليل للأتراك للناس عيدا فوق عيد، ومع ذلك فلا بد من القول أنهم خرجوا فقط من صنعاء ولم يخرجوا من اليمن كله.
ولم يعمر الإمام المهدي في السلطة طويلا فقد خلع بعد عدة أشهر ليأتي إمام جديد ولتدخل صنعاء وما حولها في فترة فوضى واضطراب يتنازع السلطة فيها أئمة صغار ولتعم فوضى القبائل وهو ما مهد الطريق لعودة الأتراك العثمانيين ثانية إلى صنعاء.
خليك معناالمصدر: جلسة نقاشية منشورة في ملتقى المؤرخين اليمنيين