لم يكُن مجرد شاعرٍ يكتب هواجسه على الورق الأبيض ولم تكن قصائده لتنتهي وإن لم يقل إنه لا يريد لها أن تنتهي.
لقد ظل يكتب القصيدة حرفا فحرفا ونزفاً فنزفا من أوراق الزيتون إلى آخر قطعة نرد بدم جراحه بل بدم جراحات الإنسانية المسلوبة الهوية والوطن المُغتصب ليوثق جراحات الواقع اللاواقعي وليُعري بالسؤال خوف الإنصات للحقيقة؛ الحقيقة التي نغمض عنها أعيننا عندما تقف إلى جانب أعزل يواجه تكتلات من القوة والنفوذ في مراكز القرار.
لكن كيف لابن تلك القرية المنسية أن يقف في وجه عالمٍ مُستبد ببطاقة هوية بياناتها تدلُ على التشبث بها وعلى زيف ادعاء الآخر؟ إنها الحجة وسلامة المنطق المصحوبة بتجارب الألم وقساوة العيش بلا وطن.
مُبكراً أدرك محمود درويش أن القضية الفلسطينية ليست قضية دينية بين المسلمين واليهود وليست إثنية بين العرب وإسرائيل بل هي صراع بين مُغتصبٍ ومُغتصب. بين صاحبٍ أرضٍ رست جذوره قبل ميلاد الزمان فيها وبين دخيل جاء بالقوة والموت وكان يعتبر أن الوسيلة المثلى للرد على الميثولوجيا الإسرائيلية المستندة إلى أصل ديني يجب أن يكون بميثولوجيا فلسطينية كنعانية وبسرد للحكاية الفلسطينية.
ويرى أن النظرة الإسرائيلية الفوق تاريخية المعتمدة على المعجزة وادعاء الاصطفاء ليست هي التي جعلت قوة المشروع الإسرائيلي قابلاً للتحقيق وإنما قوة السلاح والحداثة الغربية وقوة التأثير الأخلاقي الذي صنعه الهولوكست في الضمير العالمي .
كان يتساءل لماذا ينبغي علينا أن ندفع وطننا ثمنا لماحدث لليهود في أوروبا؟ لقد أستند محمود درويش على الذاكرة التاريخية. للأرض الفلسطينية لا ليثبت أن هذه الأرض تملك تاريخا ولكن ليوجه الخطاب لكل أصناف الثقافات بأن تاريخ فلسطين تاريخ تعددي وليس تاريخاً حصريا على ثقافة دون أخرى ( وُلدتُ قرب البحر من أمٍّ فلسطينية ٍ وأبٍ آراميٍّ . ومن أمٍّ فلسطينية ٍوأبٍ مؤآبيٍّ . ومن أمٍّ فلسطينية ٍ وأب ٍأشوريٍّ .ومنْ أمٍّ فلسطينيةٍ وأبٍ عروبيٍّ .ومن أمٍّ , ومن أمٍّ ) ولما فند كل ادعاءات العدو وجرده من كل أسلحة الحُجة دعاه في الأخير إلى أن يحمل أسماءه وأوهامه ويرحل من أرض على الفلسطيني أن يحيا فيها كما يشاء.
عاش درويش لأجل قضيته الكبرى والتي لم تكن محصورة بالقضية الفلسطينية كلا بل قضية الحقيقة وإكتشافها من بين المتناقضات والتي تحوي تحت رايتها كل قضية فعاش ليبحث عن ماهية الحياة وماهية الموت وغير ذلك من الأسئلة الكبرى المصيرية التي تتدخل في تشكيل هوية الإنسان في هذه الحياة وتساعده في رسم خريطة التحرر. حين نقرأ لدرويش نشعر أننا نقرأ قاموساً من الشعر يحوي في داخله كل مفردات الحياة، ولعل هذا ماجعله من أقرب الشعراء إلى إلى أغلب أبناء اللغة والأدب فهو بطاقة الهوية التي نحملها في وجه أعداء الهوية .
لا أكتب هذا لأرثيه فهو شاعر نسي أن يموت، ولا لأرفع من مكانته العالية التي لاتطالها مفرداتي ولكني أرى أنني بحاجة إلى مناجاته بعد تسعة أعوام أعوام من رميه آخر نرد على جداريات الصمود والأمل لأقول له: محمود درويش…
من أنا لأقول لك ماأقول لك وأنت من نثر الكلام على سجيته ليعبر في الحكاية وأضاء لنا أثرا غنائيا وجرسا. مازلت لم أغسل دمي من خُبز أعدائي ومازالت الصحراء التي حاصرتك يوماً في بيروت وأشعل رمضاءها فيك مديحاً للظل العالي تزحف علينا من كل الجهات قد سقطنا مراراً من علو شاهق وسال دمنا على أيدينا لكنا مانزال نؤمن بأننا ملائكة وأن حقيقتنا عذراء
محمود درويش: عالمنا تغير كله فتغيرت أسماءنا حتى التحية بيننا وقعت كزر الثوب فوق الرمل لم تسمع صدى فقل أي شيء لتمنحنا الحياة جمالها.