الصباح اليمني_مساحة حرة|
رغم التهديدات الخارجية الكبيرة التي تستهدف الولايات المتحدة الأميركية، فإنَّ تهديداتها الداخلية هي الأكثر خطورة على بقائها ووجودها. تشهد الولايات المتحدة الأميركية حدثاً غير اعتيادي، فهي المرة الأولى التي يوجه فيها القضاء الأميركي اتهاماً جنائياً إلى رئيس سابق ومرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.
ولم تُعرف حتى الآن الاتهامات التي وُجهت إلى ترامب، إذ لا تزال لائحة الاتهام سرية، إلا أنَّ وسائل إعلام أميركية ذكرت أنه سيواجه أكثر من 30 تهمة تتعلق بالاحتيال في مجال الأعمال، إضافة إلى تهمة شراء صمت ممثلة إباحية.
طبعاً، المشكلة لا تكمن في التعاطي مع هذه الممثلة، فالقانون الأميركي لا يحرّم الحصول على خدمات جنسية في مقابل دفع المال، لكنها تكمن في أن هذا المال دفع من الأموال المخصصة لتمويل الحملة الانتخابية للرئيس، والتي تعد أموالاً للحزب والدولة، وبالتالي لا يجوز إنفاقها على الملذات الشخصية.
ويشير الاتهام إلى أنَّ محاميه السابق مايكل كوهين كان قد دفع 130 ألف دولار للممثلة ستورمي دانيلز قبل الانتخابات الرئاسية عام 2016 لتلتزم الصمت بشأن العلاقة التي جمعتها بترامب في العام 2006.
هذه الاتهامات يواجهها الرئيس ترامب بشيء من النفي، مؤكداً أنها تأتي في إطار التضييق عليه ومنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.
المهمّ في هذه القضية أنها تنبئ بحدوث انقسام كبير داخل المجتمع الأميركي بين من يؤيد ترامب وينتقد القضاء الأميركي ويصفه بالمسيس والمنحاز، ومن يؤكد أن هذه المحاكمة تعد مؤشراً كبيراً على سمو القانون في الولايات المتحدة، فهو يعلو ولا يعلى عليه، والجميع يجب أن يخضعوا له من دون استثناء.
فكرة استقلال القضاء ونزاهته تعد ركناً من الأركان الأساسية التي قامت عليها الديمقراطية في أميركا، وبالتالي فإن التشكيك في نزاهته يعدّ طعنة للقيم والمبادئ المؤسسة للدولة.
على الرغم من ذلك، فإن الكثير من أنصار ترامب باتوا يشككون في نزاهة القضاء الأميركي واستقلاليته، ويرون أن الدولة العميقة هي من يتحكم فيه وفي جميع مفاصل الدولة وسياساتها، ويستشهدون على ذلك ببعض الأمور، مثل:
– الأميركيون الأفارقة لا يحصلون على حقوقهم، لأن القضاء الأميركي منحاز ضدهم.
– وضعت الحكومة الأميركية رئيس بلدية العاصمة واشنطن في ثمانينيات القرن الماضي في السجن حتى لا يصوت له الناس في الانتخابات في حينه.
– هناك اتهامات لعائلة بايدن بأنها تلقت ملايين الدولارات من الصين، إذ يشير أنصار الحزب الجمهوري إلى امتلاكهم صوراً للشيكات والحوالات المصرفية التي تثبت ذلك، لكن القضاء لا يريد التحقق منها لاعتبارات سياسية.
– كانت شركتا “تويتر” و”فيسبوك” قد منعتا ترامب من التحدث إلى جمهوره عبرهما، وهو ما يعني أنَّ الحكومة الأميركية تجبر الشركات الخاصة على الامتثال لسياستها والوقوف في وجه المعارضة، وهو ما ينبئ بإمكانية تحول الولايات المتحدة إلى دولة أمنية تواجه رئيساً سابقاً.
– هذه ليست المرة الأولى التي تواجه بها الدولة العميقة الرئيس، فهي التي كانت وراء قتل الرئيس جون كينيدي عام 1963، وإسقاط ريتشارد نيكسون بعد فضيحة “ووتر غيت” عام 1968.
كذلك، قامت الدولة العميقة بإسقاط حكومة مصدق الذي كان أول رئيس وزراء إيراني منتخب ديمقراطياً عام 1953، وأعادت الشاه إلى الحكم، لأن مصدق قام بتأميم شركات البترول التابعة لبريطانيا.
– منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت الولايات المتحدة لإسقاط أكثر من 50 حكومة أجنبية منتخبة ديمقراطياً، وشنَّت أو شاركت في حروب في شبه الجزيرة الكورية وفيتنام وكوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا، وآخرها في سوريا وأوكرانيا، ودعمت الإرهاب فيها، وأدت إلى كوارث إنسانية فادحة (وفقاً للكاتب الأميركي ويليام بلوم).
– الحرب الأميركية على الإرهاب طالت أكثر من 40% من دول العالم، وتسببت بوقوع نحو 800 ألف قتيل، وفقاً لتقرير “تكاليف الحرب” الصادر عن جامعة براون الأميركية.
– الدولة العميقة هي التي تقف اليوم وراء التدخل الأميركي في سوريا و147 دولة في العالم. هذه الدولة يحركها المجمع الصناعي الحربي الذي لا يدافع عن مصالح الولايات المتحدة كدولة، بل يعمل لخدمة لوبي صناعة السلاح فيها.
رأى ترامب في القرار اتهاماً سياسياً بحقه، يهدف إلى تشويه سمعته ومنعه من الترشح للانتخابات القادمة، ووجه اتهاماً إلى هيئة المحلفين في محكمة منهاتن في نيويورك بالضلوع في هذه اللعبة السياسية ضده، وهو ما ينفيه الديمقراطيون، ويستشهدون على ذلك بمجموعة من الحجج منها:
– الدستور الأميركي لا يمنع ترامب من الترشح، حتى لو تم توقيفه، إذ يمكنه الترشح وقيادة حملته الانتخابية من وراء القضبان. وفي حال فوزه، يمكنه أن يكون سيد البيت الأبيض وهو في السجن.
– للرئيس ترامب مشكلات مع القضاء منذ سبعينيات القرن الماضي عندما كان يعمل مع والده في تجارة العقارات.
– من الممكن الحديث عن عدم نزاهة المدعي العام، ولكن من المستحيل التأثير في قرار هيئة المحلفين.
– هناك قضايا جنائية أخرى بحق ترامب تتعلق بتدخله لتغيير نتائج انتخابات 2020 في ولاية جورجيا، والأخرى ترتبط بتهم وجرائم مالية في مخالفة لقانون تمويل الحملات الانتخابية.
– ترامب هو من استمرّ، ولمدة 4 أعوام، بتهديد هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية السابقة لانتخابات 2016، برفع السرية عن بريدها الإلكتروني المشبوه الذي يبلغ عدد رسائله أكثر من 30 ألف بريد أُرسِلت عبر خادم خاص إبان توليها منصب وزيرة الخارجية في عهد رئاسة باراك أوباما.
ويفكّر الفريق القانوني للرئيس ترامب في طلب نقل ملف القضية من مانهاتن إلى جزيرة ستاتن، خوفاً من عدم حصوله على محاكمة عادلة، في حين ترى جينيفر رودغرز، المدعية العامة الفيدرالية السابقة، أنّ أيّ محاولة لنقل مكان المحاكمة لن تنجح، لأنَّ المتهمين لا يحق لهم البحث عن هيئات محلفين بناء على خصائص محددة توافق أهواءهم وتوجهاتهم السياسية.
ويبدو أنَّ ترامب يحظى بشعبية كبيرة في ستاتن، حيث كان قد حصل على نسبة مرتفعة من أصوات الناخبين، وهو ما يجعله يعتقد أن هيئة المحلفين هناك ستكون أكثر تعاطفاً معه.
المشكلة تكمن في أن هذه الاتهامات قد تزيد شعبية ترامب، وتدفع الشارع إلى التحرك دعماً له، وخصوصاً أن شعبيته وصلت إلى أرقام غير مسبوقة، وهو ما سيجعل المحكمة الجنائية تتجنب اتخاذ الاجراءات القانونية بحقه، خوفاً من ردود فعل أنصاره، ولا سيما أن ترامب دعاهم إلى الاستعداد لنشر “الدم والدمار” في حال اعتقاله.
وكان أنصار ترامب قد أثبتوا ولاءهم له عام 2020 عندما دعاهم إلى الهجوم على الكونغرس احتجاجاً على نتائج الانتخابات التي يصفها بالمزورة، ما أسفر في حينه عن مقتل وإصابة العديد من الأشخاص.
وفي حال أصبح ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فلن يستطيع إصدار عفو عن نفسه، ولن يتمكن من العفو عن جرائم غير فيدرالية. المثير للسخرية في هذه القصة هو أن القضاء الأميركي لم يتحرك لمحاكمة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني وهنري كيسنجر وغيرهم من الرؤساء وكبار المسؤولين على خلفية الجرائم التي ارتكبوها بحق شعوب العالم أجمع.
كيف ينسى العالم الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر والجرائم الكبيرة التي ارتكباها في كمبوديا، حين أعطيا أوامر بقصف كل ما يطير في السماء وكل ما يتحرك على الأرض! ولا نستطيع أن ننسى بوش الأب وجرائمه بحق الشعب العراقي، وهو الذي دمّر البشر والحجر، وأعاد العراق إلى العصور الوسطى، ونقل النموذج المثالي للديمقراطية الأميركية في سجن أبو غريب!
لقد استطاع ترامب كشف حقيقة النظام السياسي الأميركي وتعريته كنظام قائم على الحروب والاغتيالات ونهب ثروات الشعوب والفساد الأخلاقي، وهو النظام الذي تم الحرص على تصويره بوصفه الأقرب إلى المثالية والمفعم بالديمقراطية واستقلالية المؤسسات وسيادة القانون.
وكشف ترامب أيضاً حالة التفكك والوضاعة التي يعيشها المجتمع الأميركي الذي اعتاد اختيار قادته بناء على ما سيقدمون له من مغريات مادية يلجأون إلى سرقتها من الشعوب الأخرى، وهو المجتمع الذي بالغ في تقديس الحريات الفردية حد الوصول إلى جعل حماية حقوق الشواذ محدداً من محددات السياسة الأميركية.
هذه المرة، سيكشف المجتمع عن وجهه الحقيقي متجرداً من ديمقراطيته المزعومة، منتصراً لقيمه المادية وشعبوية رئيسه. ومن المفيد الإشارة إلى ما قاله روبين كيلي أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس: “إن عدد سكان الولايات المتحدة لا يتجاوز 5% من سكان العالم، لكنها تضم 25% من إجمالي عدد السجناء في العالم، إذ يوجد في الولايات المتحدة 2,3 مليون سجين”.
هذا الأمر يعود إلى أن الولايات المتحدة تستغل قوة عمل السجناء لمراكمة أرباح الشركات العابرة للقارات، لجعل سعر العديد من السّلع أقل من تكلفتها في الهند أو بنغلاديش أو كولومبيا.
ويتّفق الحزبان الحاكمان على تشديد القَمع بذريعة مكافحة الجرائم والمخدرات، ما يفسر ارتفاع عدد السجناء في الفترة بين 1973 وحتى 2005 بنسبة 700%، نتيجة سياسات مخططة وبرامج معدة سلفاً لتمكين الرأسمالية الأميركية من زيادة حجم العمالة الرخيصة، إذ يعمل أكثر من مليون سجين بدوام كامل لمصلحة الشركات التي تعتبرهم عبيداً وليسوا عمالاً، وهم يتقاضون بين 16 و65 سنتاً للساعة، أي أقل من الحد الأدنى للأجور بنحو 95 مرة.
لقد حرصت الولايات المتحدة على تصدير أسلحتها وقيمها المادية الهدامة إلى العالم، لكن ديمقراطيتها بقيت أشد صادراتها فتكاً وأكثرها خداعاً، فكيف لدولة تعيش حالة حرب مع نفسها أن تكون قدوة لغيرها من الدول!
خليك معناالمصدر: الميادين نت