الصباح اليمني_مساحة حرة|
ماذا عن هذا الوطن الجميل؟ منذُ عرفتُهُ وهو بائس، قبيح، وغير موجود إلّا في كتب التاريخ الجافة أو البعيدة. أفكر، الآن، بالهجرة، فحسب.
لم أعد أفكر في شراء حذاء رخيص، لم يعد يشغلني هاجس النجاح، حتى أحلامي البسيطة طاحتْ في هذه الحرب. إذَن، الهجرة أولًا وأخيرًا. حان وقت الرحيل، لا بد من ارتشاف كؤوس الهجرة..
نعَم سأهاجرُ إلى بلدٍ يخلو من لعنة الرعب وضجيج الأغبياء. علّمني التاريخُ أن حروبَ الأغبياء لا تنتهي، إنها حروب طويلة جدًّا، وهؤلاء الأغبياء، الأنذال، يذبحون بلادي منذُ قرون، ويسكرون بدمي الحالم ودمها البريء. الهجرة، حتى وإن كانت قاسية بلا حدود، إنما هي، بحق، أفضل بكثير من البقاء «المُهِين» في هذا الوطن الهالِك، والذي لم يكن، يومًا، وطنًا. الهجرة هي الحل. حقًا، ليس أقسى من تلك الغربة التي يشعر بها المرء في وطنه الأصلي. فهذه الغربة لا تطاق، الحجر أرق منها، ها هي تمزّقني على نحو غير منقطع. ما الوطن؟
يا لها من سعادة كبيرة! ماضيَّ بائس، حاضري يطفح بكل أشكال البؤس، وهذا مستقبلي كما يبدو: إمّا الحرب ذاتها أو الاغتراب كله. أيتها الحرب، الجميلة كصحراء صاخبة، لم أعد أكرهكِ بتاتًا، ها أنتِ في دموعي، في كل تفاصيلي وأشيائي، في غضبي، في اسمي، في حقيبة سفري.. ترقصين، ترقصين. يليق بكِ كل هذا الانتصار! فقط، زيديني عشقًا كهذا، أيتها الحلوة. هل أكون غبيًا كي أعيشَ في سلام؟ الغباء، أحيانًا، هو أقصر الطرق إلى النجاح أو النجاة. حسنًا، سأجرّبه.
إنها الحرب، إذا لمْ تقتلك أو تهينك، تجعلك شاعرًا أو شيئًا. معظم أصدقائي قتلتهم الحرب، والذين بقوا، أعني هؤلاء الغرباء مثلي، صاروا شعراء أو لا شيء. الحرب لا تقتل إلا الطيبين. وحدها الحرب مَن جعلتني أبحث عن حياة، لا عن وطن. في الحرب، تمنحك الكتابةُ الدفءَ والحنان، ويمنحك الوطنُ مزيدًا من القسوة والهزائم. يبدو لي أن ضميرَ الكتابة أوسع من ضمير الأرض. يخونك وطنك، يخذلك، يطاردك كشبح في غابة سوداء، فتحتضنك الكتابة بحنانٍ كامل الدسم. اكتبْ إذا لم تستطعْ أن تهاجر. اكتبْ إذا لم تجدْ وطنًا يليق بكرامتك.
لا، أنا لستُ يائسًا، فاليأس نفسه لم يعد يستوعب همومي ومشاكلي؛ لقد يئِسَ منِّي! ماذا بعد اليأس؟ سأجرّب نفسي في مكان آخر، مكان لائق، طبعًا ليس «الأمل». لا، أنا لستُ ممن يخونون وطنهم، ولكنني سأخونه بالضرورة حينما أجِد الفرصة المناسبة لذلك. بالمناسبة، انهيتُ اليومَ قراءة كتاب «سأخون وطني»، للشاعر الكبير، الذي يدهشني في الصميم، محمد الماغوط. الماغوط؟ كم هو جريء وصادق! الشعر صرخة لا نهائية، والشاعر أصدق ثائر. لن أهاجر، سأبقى حيث ولدت، هنا، وحيث أكتب هذه الدموع الغزيرة. أنا مثلك، أيها الماغوط الجميل: لا يعجبني العيش في بلد لا يوجد فيه مشاكل. أنا مثلك، أيضًا، أيها الماغوط الشامخ في ضميرنا: أحب الخسارة، وأحب أن أخسر دائمًا.
لي صديق عزيز، لم يرقص، ولم يبتسم، منذُ سنوات، أي منذُ اندلاع هذه الحرب الوقحة. إنه أحمق!
ولي، أيضًا، صديقة جميلة جدًا، تزوجتْ، كُرهًا، وبضغوط عنفية، برجُلٍ متوحش، هي أصلًا لمْ تكن تحبه، لم تكن ترغب فيه على الإطلاق. أين هي الآن؟ لروحها السلام. لم تعش معه أكثر من شهرين، لكنها رحلت منتصرة!
أتساءل دومًا: كيف يقوى على الحياة ذاك الذي لا يقرأ؟ شخصيًا، لا أطيق الحياة عندما لا أقرأ، كما لا أطيق نفسي حتى. الكتاب هو الوطن الوحيد الذي يعطيك بغزارة، ولا يقسو يومًا. طبعًا، وفي السجن تحديدًا، عرفتُ رجلًا لا يفقه حرفًا من حروف الأبجدية، ولا يعرف شيئًا عن تاريخ الكتب، هكذا طوال حياته. لكنه رجل عظيم بالفعل، آسِر بطبعه السوي، إذ يعطي الحياة أكثر مما يأخذ منها، ويجيد فن التعامل مع العالَم. أليست الحياة أعظم مدرسة؟ المجد للحياة!