نقترب من نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة، ولم نعد نسمع في أصوات رؤساء وقادة الدول الوصيّة على مستقبل العالم، تلك النغمة الفخمة عن المفعول السحري لـ«الديمقراطية»؛ الإكسير الذي يمنح الشعوب مستقبلاً أفضل.
بدلاً من ذلك، صاروا يفاقمون الشقاء الإنساني بالحروب، ويتحدثون عن الخطر الذي يتهدد كوكب الأرض من أسلحة الدمار الشامل والتغيرات المناخية والنقص الحاد في الغذاء.
وإلى ذلك، لديهم دائماً إجابات جاهزة على أسئلة من قبيل: لماذا لا تهتمون مثلاً، بالتوقيع النهائي على اتفاقية الحد من الأسلحة النووية واتفاقية المناخ… وغيرها، قبل الاهتمام بنشر الدروع الصاروخية والقواعد العسكرية في مناطق الدول غير المنتجة للسلاح؟ أكثر ما يخيف الناس هو استمرار شعلة الحروب متقدة في أنحاء متفرقة من الأرض.
أما أسوأ المخاوف فتتمثل في اندلاع حرب نووية، وهي غير بعيدة في ظل استمرار الإعلاء من شأن منطق القوة والقوة المضادة، وتجاهل التحذيرات من تفاقم الوضع الإنساني جراء الحروب بالوكالة والمدى الذي يمكن أن تصل إليه شراراتها.
في مستهل القرن الواحد والعشرين، أجرى الروائي الأمريكي فيليب روث، حواراً مع الروائي التشيكي ميلان كونديرا، بدأه على النحو التالي:
روث: هل تظن أن دمار العالم أصبح وشيكاً؟
كونديرا: هذا يعتمد على ما تعنيه بكلمة وشيك؟
روث: غداً، أو بعد غد، مثلاً؟
كونديرا: الإحساس بأن العالم على وشك الدمار هو إحساس قديم.
روث: إذن، ليس هناك ما ينبغي أن نخاف بشأنه؟
كونديرا: على العكس. إذا كان الخوف قائماً في الذهن البشري طيلة كل هذه العصور، فلا بد أن شيئاَ ما يكمن وراء ذلك.الذي يكمن وراء خوف الإنسان من «الدمار الوشيك»، هو الإحساس بذلك الاقتراب المتسارع نحو نهاية الحياة.
يستطيع الإنسان أن يتفادى الخوف من الموت عبر مبدأ «اطلبوا الموت توهب لكم الحياة»، لكن الإحساس باقتراب نهاية الحياة على الأرض التي يعيش فوقها، هو أمر تفرضه أحداث كبرى لم يعشها فيليب روث، كما لم يكن يتصورها كونديرا، قبل الغزو السوفيتي لبلاده أواخر ستينيات القرن العشرين- كما قال. بعد هذا الحدث الفارق في تاريخ الأمة التشيكية، لم يلبث الكاتب والمثقف الثوري أن غادر بلاده هارباً من «الغزو» الذي جاء حاملاً الراية الستالينية للثورة.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي بعشر سنوات، تحدث كونديرا عمّا فعله «الروس» خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ليس في التشيك وحسب، أيضاً في أوكرانيا وليتوانيا. وعن الليتوانيين تحديداً، يتحدث كيف لا يزال «الروس يبقون الليتوانيين تحت التحفظ مثل قبيلة منقرضة… مغلقون داخل حدودهم ولا يسمح بزيارتهم لمنع تسرب المعلومات عن وجودهم للخارج». أما عن الأمة التشيكية، فهو لا يعرف ما يخبئه المستقبل لها، لكنه أفصح عن خشيته شبه الأكيدة، من أن «الروس سيفعلون كل شيء ليذوب وجود هذه الأمة داخل حضارتها».
غالباً عندما يتحدث المثقفون والمؤرخون الذين يعرفون اليمن، لا يفوتهم ذكر وجودها الحضاري المطمور تحت طبقات كثيفة من العزلة والانطواء ومن تسلط الجوار السعودي.
وإذا كان من المستبعد أن يكون لدى كونديرا، أو فيليب روث، أية فكرة عن الوجود الحضاري لليمن، فهما كغيرهما من غالبية مثقفي العالم البارزين، الذين لا يصل اهتمامهم بمعاناة الإنسان وشقائه أبعد من المستعمرات القديمة وضحايا الحروب الأوروبية الكبرى. ليس على مثقفي ونشطاء السلام في العالم استنفار طاقاتهم لكي يعرفوا كل ما يتعلق بالوجود الحضاري والراهن لليمن، ثم اتخاذ موقف مكرس لإنقاذه من الدمار والجوع والأمراض الفتاكة. لكن، ألا تثير حياة خمسة وعشرين مليون إنسان، ذلك السؤال الفضولي للباحثين عن «المعذبين في الأرض»؛ كيف يتدبر هذا التجمع البشري الهائل أمور حياته في ظل حرب متعددة الأبعاد والأطراف؟ لماذا يعيشون في عتمة الأحداث الكبرى دائماً؟ شعب اعتاد أن يعيش طبقاً لمفهومه الخاص بالكرامة، وأن يموت من دون أن يطلب النجدة من أحد.