صدق مصطفى محمود حين كتب: “قافلة طويلة من ثلاثمائة مليون عربي يمشون نيامًا وعيونهم مفتوحة كأنما أصابهم مس، والقنابل تنفجر من حولهم، والعالم يتغير والتاريخ يتبدل، وهم ما زالوا يمشون نيامًا. سبحان ربي، متى نصحو؟”.
أتذكر ذلك اليوم جيدًا، عندما دخلت في نقاش حاد شاذ مع صديقي الأمازيغي، لأثبت له أن العرق العربي أفضل من أي عرق آخر، كنت أبلغ من العمر حينها ثمانية عشر عامًا.
حين أخبرني بأن أصول سكان المغرب أمازيغ، وأن معظمنا إن لم نقل كلنا أمازيغ، فانتفضت في وجهه قائلًا “لا يشرفني أن أكون أمازيغيًا، فعرقي أنا عربي”.
كان صديقي هادئًا حين رد على جوابي “وما دليلك على أنك عربي؟”، فأجبته في رد سريع: “وحتى إن كنت أمازيغيًا، فلا يشرفني ذلك، فأنا لا أتحدث لغتكم، وقبيلتي لا تتحدث اللغة العربية”، أخبرني أن قبيلتي تعرضت للتعريب، أجبته “أنا أنتمي إلى عرق سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يكفيني”؛ لم يكن لصديقي جواب، وهنا توقف النقاش، أحسست أنني أقنعته، وود هو كذلك أن يكون عربيًا كذلك بمجرد أن أدخلت اسم محمد في الحوار.
لكن هذا الحوار ترك بصمة قوية في ذاكرتي، فقد أدخل عاصفة ذهنية للبحث في أصولي، حين طرح سؤاله المستفز”وما دليلك على أنك عربي؟”. منذ ذلك اليوم قررت أن أبحث عن أصول قبيلتي.
وبعد بحث طويل، وبحكم اشتغالي إلى جانب مؤرخين، اكتشفت أن أصول قبيلتي أمازيغية، وبأنني “أمازيغي”،ربما وأنا في هذه السن، وددت أن ألتقي صديقي، وأخبره أنني كنت مخطئًا وأنا أحاول أن أثبت له أنني “عربي”، كنت أظن أن الإنسان العربي هو أفضل الأعراق، لكن الأحداث التي تحدث اليوم بالعالم العربي تجعلك تشمئز من كونك عربيًا.
كان على صديقي أن يوقف الحوار بسؤال استفزازي بسيط “ما فائدة أن تكون عربيًا؟” هذا السؤال لا يمكن لأي شخص عربي الآن أن يجيب عنه، ما الفائدة أن تجلس في موطنك العربي في ليلة جميلة، هدوء، نسمات عليلة، ما يزيد تلك الليلة جمالًا هو صفاء السماء، تظهر النجوم مبتسمة، ترى الهلال يلوح لك من هناك، هو الآخر سعيد، يزيد المكان هدوءًا صوت خرير المياه الخفيف القادم من الوادي، تظهر المنازل منيرة بأضواء خافتة، تتحرك الأشجار فيسمع حفيف أوراقها،
لكنك لا تشعر بالسعادة، بل لا تحس بها نهائيًا، ما السبب يا ترى؟
يخطر في بالك أن هناك في جهة من عالمك العربي، السماء ممتلئة بالدخان، صوت الرصاص في كل مكان، شوارع تجري بالدماء، أشلاء بشرية منتشرة في كل مكان، في تلك المناطق العربية غادرت السعادة المكان، أصبح الحزن والصراخ والعويل هو من يسكن المكان، لا يعرفون طعمًا للنوم، لا طعم للحياة هناك.
غريب أنت أيها العربي، ما الفائدة أن تكون عربيًا، ولا تحرك ساكنًا تجاه ما يحدث في عالمك. أنت أيها العربي في مستنقعات الدول النامية، جميع المجالات نجدك في ذيل الترتيب، لا تعليم لا صحة لا تنمية، شعارات فقط، حبر على ورق، أنت في الحضيض أيها العربي، إذن ما الفائدة أن تكون عربيًا؟
حتى «التاريخ» يحزنه ما يحدث لك، فتكراره ليس محض صدفة وإنما يشفق على حالك لكي تتعلم منه لكي تستوعب منه الدروس والحكم والعبر، أصبح التاريخ يحس بالملل من كثرة ما يتكرر، أمله أن يتعلم العرب، لكن لا حياة لمن تنادي، الأمر الذي مل منه التاريخ من كثرة تكراره هو تقاتل العرب ودخولهم في حروب من أجل أمور تافهة، تقاتُل العرب ليس أمرًا جديدًا، فقد سبق لهم أن تقاتلوا عقودًا من الزمن من أجل قصيدة بل بالأحرى من أجل بيت شعري، هج فيه شاعر من قبيلة «مساخيط» ناقة شاعر الآخر من قبيلة «الحراميين» وصفها بأنها معزة، فقامت حرب بين قبيلتين، استعملت فيها السيوف والخيل والجياد، فمات الناس، وحرقت المحاصيل وأفقرت القبيلتان بسبب شاعرين، لم يجدا ما يفعلانه سوى هجاء حيواناتهم.
بكى التاريخ وأشفق على حال العرب، وفي قرارة نفسه أقسم أن يتكرر دائمًا لكي يتعلم العرب منه، لكن هيهات هيهات، لا حياة لمن تنادي، إذن ما الفائدة من كونك عربيًا؟ أنت أيها العربي تستيقظ باكرًا ثم تأخذ حاسوبك وتدون على حائطك الفيسبوكي ما يلي «صباح حزن اختلط بمشاعر غضب، من كثرة الصور والأشرطة الفيديو التي انتشرت على مواقع إخبارية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشار النار في الهشيم، لأطفال من حلب، يصرخون، ولإنسانية تنتهي، نحن معك حلب بقلوبنا، نحن مع انتشار السلم وإنهاء الحرب التي تنهي حياة الأبرياء، تقضي على أحلام بالكاد رأت النور في هذه الحياة، متى سينتهي هذا الظلم الذي نعيشه فوق هذا الكوكب اللعين، اللهم عجل بنهاية هذا الزمان، اللهم كن مع أهلنا في حلب. حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
هذا ما تستطيع أن تفعله أيها العربي، وبعد الانتهاء من تدوينتك، تأخذ حمامًا ساخنًا، تشرب قهوتك، ثم تخرج لملاقاة أصدقائك لتستمتعوا بوقتكم، متناسيًا أهلك العرب في حلب، إذن ما الفائدة من كونك عربيًا؟
الإنسان العربي يستخدم فمه لتناول الطعام، وعقله (للتفكير) بما سيأكل غدًا. اليوم شعوبنا العربية كلها كذب ودجل، فصاحة بالكلام بلا عمل، وقاحة بالخيانة بلا خجل، خزي وعار يخجل منهم أبو جهل. العربي لم يصنع شيئًا وغيابه أو موته لن يؤثر في شيء.
لا لا، أعتذر، فالعربي صنع الكثير، أوصل أممه إلى الانحطاط، اتفق مع العدو لدحر نفسه، اتفق العرب على دولة عربية، اتفقوا على خنقها، هو الشيء الذي لم يفعلوه مع إسرائيل، يتهم العرب بعضهم بعضًا، ولا يعلمون أن هذه الاتهامات ستجر عليهم الويلات وستعود بهم إلى فترة الاستعمار، وسيصبح العرق العربي في خبر كان.
إذن ماذا تنتظر من الإنسان العربي؟ ماذا تنتظر من عربي أهلكت المخدرات عقوله، ماذا تنتظر من عربي لا يحترم أمه ولا أباه ولا معلمه، ماذا تنتظر من عربي يصعد إلى حافلة أو يدخل إلى مكان عمومي ويخربه، على أساس أنه ليس ملكه بل ملك الدولة، ماذا تنتظر من عربي يشاهد المسلسلات المدبلجة التافهة، ماذا تنتظر من جيل عربي يجري الفساد في دمه، ماذا تنتظر من عربي يتحدث في السياسة ولا علاقة له بها، ماذا تنتظر من عربي مضبوع، ماذا تنتظر من جيل غبي تافه، ماذا تنتظر يا سيدى من عربي دفن رأسه وراء شاشة هاتفه، ويسب ويشتم في أعراق أخرى، ذنبهم الوحيد أنهم لا ينتمون إلى عرقه أو دينه.
ماذا تنتظر من أعراب ضاع الحق بينهم، ماذا تنتظر من عربي تخلى عن السلامة ومشى في سكة الندامة ـ كما يقولون في الأمثال، ماذا تنتظر من أعراب ظلت تؤله الجهل حتى صار قابوسًا يجثم على صدورهم ويُكبلهم بتعاويذ وطقوس جعلتهم عبيدًا له، ماذا تنتظر من جيل عربي تفرقه عصا ويجمعه «البندير»، ماذا تنتظر أن يكون حال الوطن العربي وكل ما فيه أصبح غير صالح للاستخدام، ماذا تنتظر أن يكون حال الوطن وكل ما فيه أصبح فاسدًا، ماذا تنتظر من جيل تنازل عن كل حقوقه مقابل أن يعيش، يعيش فقط، ويا ليته عاش مثل باقي البشر.
ماذا تنتظر من جيل ينام نصف يومه والنصف الباقي يقضيه في المقهى، ماذا تنتظر من جيل عربي ضاع شبابه في متاهات الفساد المنتشر في كل شبر من أرض الوطن. ماذا تنتظر من جيل أصبح أثرًا بعد عين؟! ماذا تنتظر من جيل عربي نسبة الانتحار فيه ارتفعت، أغلبهم شباب، وكانت البطالة والفقر والديون أسبابًا رئيسية.
لا تنتظروا من هذا الجيل التغيير فهذا جيل صُنع على معايير خاصة، معايير طبخت على نار هادئة لتصنع منهم جيلًا من الضباع.