الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
في العام 2003، قامت منظمة “اليونيسكو” بإدراج الغناء الصنعاني ضمن قائمة التراث الإنساني اللامادي. وهذا ليس مستغرباً إذا علمنا أن الآثار الأولى للموسيقى اليمنية تعود إلى القرن الــ 11 ق.م. إذ أظهرت بعض النقوش الحجرية العائدة إلى عهود مملكة سبأ وحِمْيَر، عازفي وعازفات الطبول و “الليرة” (السمسمية في مصر).
هذه الآثار تدل على أن الموسيقى اليمنية قد اتخذت مساراً تطورياً منذ آلاف السنين، ولذلك فمن المرجح أن بلاد اليمن إحدى البؤر الحضارية القديمة في المنطقة والعالم.
بعد ذلك، مرت الموسيقى اليمنية بمراحل تطور وجمود وتراجع بسبب الظروف السياسية التي تعرضت لها البلاد، ومع هبوب أنسام التأثير الإسلامي، بدأت هذه الموسيقى في قبول الكثير من مفردات الموسيقى الآتية من شبه الجزيرة العربية والعراق وفارس، فدخلت بعض النغمات الموسيقية الشرقية إلى خزان ارتجالات المغنين اليمنيين.
هكذا ظهر الشعر “الحميني” الذي تأثر نصاً ولحناً وقالباً بالقادم من الخارج، واستمر هذا التأثير في الشعر والموسيقى حتى يومنا هذا. والشعر “الحميني” هو أساس الغناء الصنعاني. اتخذ شكله المعروف في الفترة الأيوبية التي ازدهرت فيها الأنشطة الحضارية والتجارية والمعمارية، وكذلك الموسيقية. إذ نلحظ ازدهاراً في الإنشاد الديني والغناء الشعبي اليماني في كل من صنعاء وعدن وتهامة.
واستمر هذا الازدهار بعد ذلك على يد القاسميين الذين حكموا اليمن بعد تحريره من الاحتلال العثماني الأول. وقد كان من أمراء القاسميين نخب ثقافية وسياسية برعت في الشعر الحميني، ومن المرجح تاريخياً، بحسب الفرنسي جان لامبيرت، أن الشعراء آنذاك كانوا بمعظمهم ملحنين و عازفين، وقد وضعوا الخطوط الأساسية الأولى لشكل الغناء الصنعاني الأحدث، من أهمهم الشاعر محمد بن عبد الله شرف الدين، الذي وصف ضمن سيرته الشخصية الحياة آنذاك، والأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية والثقافية وصناعة الآلات الموسيقية فيها وخصوصاً العود بشكليه، اليمني (القنبوس أو الطرب)، والعود العربي المعروف حالياً.
عانت الموسيقى اليمنية بعد ذلك من بعض الجمود بسبب بعض التيارات المتزمتة التي حكمت البلاد، وبسبب النظرة الاجتماعية السلبية إلى الموسيقيين، إذ اتجه البعض منهم إلى التصوف، والبعض الآخر إلى أماكن سيطرة الاحتلال البريطاني والعثماني الثاني في أواسط القرن 19 وبدايات القرن 20. الأمر الذي تسبب في انتقال الغناء الصنعاني وتطوره في اتجاهات مختلفة، لكنه بقي محافظاً على الشكل الذي نعرفه إلى اليوم.
وتوجد وثائق مسجلة من تلك الفترة مثل موشح “يقرب الله لي بالعافية” من كلمات الشاعر عبد الرحمن الآنسي، وسجلها الفنان أبو بكر باشراحيل بمرافقة “القنبوس” على أسطوانة لشركة “أوديون” في عدن عام 1939.
الارتجال اللحني والإيقاعي
من الملاحظ، بسهولة، أن الغناء اليمني تأثر بموسيقى البلاد المجاورة له من غير العرب أيضاً. فقد تسمع مثلاً في المقطوعة نفسها أو الموشح جملاً موسيقية تتبع السلم الخماسي الأفريقي، ثم نغمة الراست أو البيات أو السيكا الشرقية، من دون وجود أي نظام نظري واضح أو مدون لذلك.
ذلك أن الارتجال هو السمة الغالبة على المقامية والانتقال المقامي في الغناء اليمني، وهذا ينطبق أيضاً على الإيقاعات التي تفوق 10 إيقاعات أساسية يجري الارتجال والتنويع بها وتسميتها بأسماء يصعب حصرها. لكن تجمعها أسس وضوابط معينة تعطي نكهة اليمن، مثل إيقاع “الشرح” و”العدني” و”السارع” عند عزفها على آلات إيقاعية مثل “الصحن” الذي تتفرد به اليمن من بين كل بلاد المنطقة، ولا نجد له شبيهاً إلا في بلاد الشرق الأقصى، وهو عبارة عن صحن نحاسي يُحمل بشكل أفقي بالإبهامين فقط من أجل رنين أكثر، ويُنقر عليه ببقية الأصابع، ويحتاج إلى الكثير من المهارة للعزف عليه بهذه الوضعية.
أما العود اليمني “القنبوس” أو “الطرب” فيتكون من قصعة تنحت قطعة واحدة من شجرة الجوز، متطاولة وتثبت عليها الزند وحامل الأوتار الأربعة ويغلق تجويفها بجلد الماعز أو الغنم.
وتضبط الأوتار الثلاثة الأولى مثل العود العربي: الأول دو (الحاذق)، والثاني صول (الأوسط)، والثالث ري (الرخيم)، وهي أوتار مزدوجة أيضاً، ولكن الوتر الرابع واسمه “اليتيم”، فيضبط على درجة دو وهو وتر مفرد.
من النادر أن يختلف ضبط الوتر الأخير (اليتيم)، ويتم استخدامه بشكل شبه دائم مهما كان المقام المستخدم. لذلك، فإننا حيال ارتجال نغمي غير مضبوط أو مقونن في الغناء الفولوكلوري، وهو ما تجنبه الفنانون المحدثون، أي بعد انتشار الموسيقى اليمنية في الأقاليم المحيطة، مثل أبو بكر سالم وعبد الرب إدريس.
فقد انسجمت ألحانهما مع المقامات الشرقية الأصيلة بكل دقة، وهو ما ساعد على انتشار الألحان اليمنية في الدول العربية بشكل واسع، وخصوصاً في دول الخليج.
ولعل من من أهم القوالب الصنعانية التقليدية قالب “القومة”، ويتكون من 3 مقطوعات مختلفة الإيقاع: الأولى واسمها “الدسعة” والتي تبنى على إيقاع من وزن إيقاع الأعرج 9/8 أو الأقصاق التركي، ثم القطعة الثانية وتسمى “الأوسط” ويكون الإيقاع فيها من نوع 4/4 أو 4/8، يليها “السارع” وتكون على الإيقاع السابق نفسه، ولكن بشكل أسرع.
يقول الباحث السوري صميم الشريف في “موسوعة الموسيقى العربية”: “لم تكن الموسيقى اليمنية قديمها وحديثها في يوم من الأيام أسيرة حدود اليمن، فانتقل جلها إلى الخليج والجزيرة العربية حتى صار فناً من فنونهما، بما فيها الغناء المتقن الذي شاع في الحجاز في زمن الخليفة عثمان بن عفان، بفضل المغني طويس اليمني الأصل، كما يقول أحمد تيمور، ثم في زمن الأمويين والعباسيين. والغناء المتقن فن يمني ما زال معمولاً به في اليمن حتى اليوم، وبناؤه الموسيقي يقوم على استهلال غنائي خال من الإيقاع يؤدى بأسلوب الموال، ثم يتحول في جزئه الثاني إلى الأداء بمرافقة الإيقاع الثقيل؛ ليصير هزجاً سريعاً بمرافقة الرقص في جزئه الثالث، وأشهر من غنى هذا اللون في اليمن الحارثي والسنيدار ومحمد مرشد ناجي”.
ونتيجة لهذا لن نستغرب عندما نعلم أن أهم الفنانين السعوديين مثل طلال مداح ومحمد عبده من أصول يمنية. ويبدو أن التراث اليمني يشبه صانعيه في عناده وتمسكه بالبقاء والانتشار، على الرغم من الضياع الهائل الذي لحق به. بيد أنه استمر بالتواتر والنقل من جيل إلى جيل ومن مدينة إلى أخرى، بسبب تمسك اليمنيين بهويتهم الثقافية.
وجدير بالذكر أن في اليمن ألواناً عدة من التراث التي تستحق أن تكون أيضاً من التراث الإنساني اللامادي، مثل الغناء اللحجي والحضرمي والتعزي.
المصدر: الميادين نت