الصباح اليمني_مساحة حرة|
عشية الحرب الأوكرانية، وقبلها بأشهر عديدة، حاول بوتين من خلال التهديد بالقوة أن يصل إلى تسوية تاريخية مع الغرب تتيح له أن يعيد روسيا إلى مصافِ الدول العظمى، كما كانت في تاريخها السابق.
كان الخطاب الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الاحتفال بضمّ الأقاليم الأربعة إلى روسيا بمنزلة استكمال للخطاب السابق الذي أعلن فيه الاعتراف باستقلال الجمهوريات عشية الحرب الأوكرانية في شباط/فبراير 2022، وفيه دعوة للروس والعالم إلى الاعتراف بالدور العالمي لروسيا، وأن الروس سيحصلون على هذا الاعتراف عبر قوتهم، ولن يثنيهم أي شيء عن استرداد “مجد” روسيا التاريخي.
يشهد التاريخ الروسي عبر العصور على العديد من التسويات التاريخية لفترات ما بعد الحروب التي ما زالت تطبع الذاكرة الجماعية الروسية، وفيها تسويات الانتصارات وتسويات الإذلال.
1- تسويات ما بعد الانتصار العسكري
أ- تسوية يالطا
بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، وبهدف تقريب وجهات النظر في الكثير من القضايا المطروحة، سواء فيما يتعلق بالحرب وتسوياتها أو المبادئ والكيفية التي سيشيّد وفقها التنظيم الدولي الجديد، عُقد مؤتمر يالطا بين 4 و11 شباط/فبراير 1945، بحضور الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والرئيس السوفياتي جوزيف ستالين.
وقد نجم عن هذا المؤتمر العديد من النتائج المهمّة فيما يتعلّق بقضايا الحرب وتسوياتها، واستطاع ستالين أن يحوّل انتصار روسيا على النازية إلى مكاسب سياسية وجيوبوليتكية في أوروبا، واستطاع أيضاً فرض شروطه ومطالبه على حلفائه الغربيين.
لقد تمكن ستالين من أن يحقق لروسيا ما كانت تسعى إليه دائماً، وهو ضمّ العديد من الدول – العازلة إلى كنف الاتحاد السوفياتي. لطالما كان الدفاع عن الدولة الروسية في محيط أوروبي تنافسي يتطلَّب وجود عمق استراتيجي. لذا، سعت روسيا القيصيرية منذ منتصف القرن السادس عشر وما بعده لدفع حدودها إلى الخارج، عبر ضمّ الأراضي لكسب عمق إستراتيجي أو موانع طبيعية أو تأمين – بالحد الأدنى- دول حاجز لمدّ النفوذ إلى المدى الذي يعتبره الحكام الروس ضرورياً للحفاظ على أمنهم.
ب- نظام الوفاق الأوروبي
واقعياً، كرّس هذا النظام مفهوم “توازن القوى” بين القوى الكبرى، وعلى رأسها روسيا. في صياغةٍ لتسويةٍ مرحلة ما بعد حروب نابليون، سعت الدول الأوروبية لمعالجة الأخطار الاستراتيجية وتداركها، فمنح المنتصرون في تلك الحروب أنفسهم وضعاً جديداً رسمياً بصفتهم فئة دول متميّزة أكثر أهمية لتقرر مصير أوروبا، واعتبروا أنهم – وحدهم – مسؤولون عن الحفاظ على السلام.
2- تسويات ما بعد الهزيمة
تستمرّ في الذاكرة الروسية مآسي حرب القرم (1853 – 1856)، التي هُزمت فيها روسيا في وجه تحالف فرنسا وبريطانيا العظمى والإمبراطورية العثمانية وسردينيا، وتوّجت بمعاهدة باريس للسلام عام 1856.
بخسارة روسيا والشروط المجحفة التي فُرضت عليها، خرقت القوى الغربية “القانون الأهم” لنظام دول الوفاق الأوروبي القائل إنه “لا ينبغي تحدي أي قوة عظمى أو السعي لإذلالها”، وبالتالي ساعدت على زوال نظام دول الوفاق الأوروبي نفسه، ما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى فيما بعد.
وبالمثل، ومنذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، يشعر الروس باستمرار بأنهم كانوا ضحية ظلم غربي تاريخي لم يتعامل معهم إلا كمهزومين، وأن اللحظة التاريخية التي كانت سانحة للتصالح مع الغرب في تسعينيات القرن العشرين استغلها الغرب لمحاولة إذلال روسيا.
يعتبر الروس أنَّ تسوية ما بعد الحرب الباردة تشبه إلى حد بعيد التسوية التي فُرضت على روسيا خلال الحرب العالمية الأولى. لقد استغلّت دول المحور خلال تلك الحرب الضعف الروسي لتفرض معاهدة “بريست ليتوفسك” على البلاشفة، الذين اضطروا إلى التنازل عن أراضيهم التاريخية في هذه المعاهدة. ووفقاً للمؤرخ سبنسر تاكر، “وضعت هيئة الأركان العامة الألمانية شروطاً قاسية على الروس بشكل غير عادي، صدمت حتى المفاوض الألماني”.
3- أيّ تسوية بعد أوكرانيا؟
عشية الحرب الأوكرانية، وقبلها بأشهر عديدة، حاول بوتين من خلال التهديد بالقوة أن يصل إلى تسوية تاريخية مع الغرب تتيح له أن يعيد روسيا إلى مصافِ الدول العظمى، كما كانت في تاريخها السابق، فكان يسعى للوصول إلى تسوية مشابهة لتسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية (تقسيم مناطق النفوذ بشكل مشابه لما حصل في يالطا عام 1945)، أو ما يمكن تسميته “يالطا -2″، أو التحوّل إلى نظام يشبه الوفاق الأوروبي 1815 الذي كانت روسيا دولة أساسية فيه… وهما النظامان اللذان – بحسب الروس- قد يحققان الاستقرار في النظام الدولي.
فشلت محاولة بوتين في الدفع إلى تسوية تاريخية تؤدي إلى الاعتراف لروسيا بدورها العالمي قبيل الحرب الأوكرانية، لأن تسوية يالطا، وقبلها تسوية عام 1815، كانتا نتيجة حروب كبرى عاشتها أوروبا، واستطاعت فيها روسيا أن تحقق انتصارات كبرى وتكون المنتصر الفعلي، سواء على هتلر أو نابليون.
خلال تاريخهم، لم يقبل الأوروبيون بمنح الروس مساحة نفوذ في محيطهم الأوروبي من دون حرب كبرى ينتصرون فيها، فيجبرونهم على الاعتراف لهم بعظمة دولتهم ودورها العالمي. وهكذا، لا يجد الروس أمامهم سوى خيار الانتصار في الحرب الأوكرانية، كما فعلوا ضد هتلر ونابليون. لذا، يهددون بالسلاح النووي، فإما الانتصار والاعتراف بدورهم العالمي وإما الإذلال كأمة وشعب ودولة.
خليك معناالمصدر: الميادين نت