الصباح اليمني_مساحة حرة|
تجلت الحضارة اليونانية بالفلسفة وهي نظرية مجالها التداولي المعرفة وأداتها العقل، بينما في الهند والصين كانت تسمى في حضاراتهم بالحكمة، الفرق بين الفلسفة والحكمة هي أن الحكمة الصينية والهندية تتعلق بالعمل بينما الفلسفة اليونانية تتعلق بالأفكار. ينقل هذه الخلاصة المؤرخ والمفكر العراقي خزعل الماجدي.
نحن اليمنيون لأن لدينا حضارة قديمة اشتهرنا بالعُمران وابتكار السدود ونحت الجبال، فهذا يعني أن اهتماماتنا كانت تتعلق بالعمل، بمعنى إلتصاق الانسان اليمني بالأرض فتمكن من تطويعها بالخبرة التطبيقية المتكررة، وهنا يتجلى الفرق بأن اليمنيين كانت (حكمتهم) تتعلق بالعمل بينما (الفلسفة) اليونانية تتعلق بالأفكار العقلية.
ولأن هناك فرق بين المنطق العملي والفكري النظري فقد ابدع اليمنيون في العمل وغاب عنهم الابداع الفكري النظري العقلي.
حين تعرضت الدولة الحميرية للتفكك آخر دولة يمنية، لم نتمكن من استعادة حضارتنا وحضورنا النهضوي منذ تلك الفترة وحتى الآن، لماذا؟
ينقل لنا العالم الاجتماعي حمود العودي، أن ظهور الاسلام في جزيرة العرب كان بمثابة فرصة لحل مشكلة الاستعمار الفارسي. يقول وهو يناقش تلك الفرصة من منظور سياسي اجتماعي أن اليمنيين تطلعوا من النبي محمد عليه السلام أن يعينهم على طرد زعيم الفرس باذان، فتوافد الاقيال اليمنيين على الرسول للإيمان برسالته، تتمثل في فرضية أن محمد عربي ومن قبيلة لها صلات مع اليمنيين، وبما أنه اصبح قائد عربي فلا مشكلة مع الاسلام كدين لأن اليمنيين مؤمنين بالله؛ لذلك فإسلامهم سيشكل علاقة قوية للتعاون العربي لطرد الفرس الأجانب وإعادة الكبرياء القومي والحضاري الذي فقدوه في آخر دولة حميرية.
لم يحدث ما هدفوا لأجله بعد اسلام باذان، ولها سردية لا نحتاج لذكرها هنا، إنما الأهم هو أن اليمنيين وجدوا في الإسلام فيما بعد مادة روحية أشبع تلك الفجوة النفسية والاستلاب الهوياتي قبل الإسلام، وعثروا عليها في إطار الدولة الإسلامية.
لقد انخرط اليمنيون مع الإسلام وكانوا قادة جيوش الفتوحات الاسلامية أفرغت العنفوان الجسدي لديهم في الغزوات واشبع جزء من نفسياتهم التائة منذ سقوط الدولة الحميرية، إلا أن اليمن كبقعة جغرافية افرغت من القادة اليمنيين. لا يمكننا القول إنه حدث استنزاف للمجتمع اليمني من العناصر الفاعلة العملية في حروب الفتوحات لأن اليمن كانت حينها قد ذابت فيها الهوية القُطرية ودخلت ضمن هوية الدولة الإسلامية الجامعة. كانت تحدث ثورات ضد ولاة الدولة الاموية إلا أن اليمنيين الذين قادوا هذه الثورات كانوا بهوية فكرية أباضية أو ما كان يطلق عليهم خصومهم بـ(الخوارج).
مع دخول المذاهب السنية والفرق الباطنية والكلامية في القرن الثالث هجرية تفاعل جزء من اليمنيين معها وتأُثروا بها. صارت اليمن كالاسفنج تتشرب كل ما يأتيها من بغداد والقاهرة ودمشق بما فيها من صراع عقائدي وصراع مسلح أيضاً، أي أن اليمنيين كانوا هم العنصر المُنفعل الذي لا يصنع المعرفة وبالتالي الفِعل، فيما كان الفاعل هو العنصر القادم من بغداد والشام والقاهرة، على أن اليمنيين كانوا فاعلين بترجيحهم كفة الصراعات التي يحثهم عليها ذلك القادم من تلك العواصم.
إن الحقبة الزمنية لما قبل الإسلام وما بعده بثلاث قرون، نفهم منها أن اليمنيين كانوا في حالة من التيه وفقد الهوية الفاعلة، عدا عن ذلك الفراغ النفسي الذي عالجه الإسلام في نفوس اليمنيين، إلا أنهم ظلوا كما كانوا، العنصر الذي يفتقر للمبادرة والتخطيط والتأثير.
ولأن التخطيط والتأثير والمبادرة هي من خصائص العقل الفاعل فإن العقل هنا لا يمكن أن يصنع ذلك التأثير الا بالأفكار والمعرفة وهذا ما كان يفتقده اليمنيين.
لكن كيف يكون اليمنيون فاعلين في العمارة وابتكار السدود وتطويع الأرض حتى بنوا مماليك وحضارة ثم لم نتمكن من استعادة تلك الفاعلية فيما بعد، إذا ما اعتبرنا أن كثير من مميزات الانسان يتناسلها بيلوجيا وتكون كامنه فيه؟
إننا هنا سنعود لبداية المقالة حيث تقسيم المؤرخين الدقيق للفلسفة اليونانية التي كانت أداتها العقل وموضوعها الأفكار، والحكمة الصينية الهندية التي كان موضعها العمل، وأننا نحن اليمنيين كانت حكمتنا أقرب للهندية والصينية، لذلك كنا فاعلين عملياً ولكننا نفتقد للإطار النظري العقلي، بينما كان القادمون علينا يمتلكون المنطق الكلامي والحجج والإطار النظري الديني فكانوا أكثر إغواء لليمنيين وتحويلهم إلى منفعلين لا فاعلين.
سنظل منفعلين ومتفاعلين مع مشاريع الآخرين ما لم نصنع توازن بين قوتنا الجسدية الحيوية العملية والعقل المنتج للأفكار، وأقرب طريقة لهذا التوازن تلك التي لا تحتاج لكثير من الجدل، التحول نحو التعليم.
أمجد خشافة
خليك معنا