الصباح اليمني_مساحة حرة|
قد يبدو السؤال غريب، في وقت نسمع تصريحات دائمة حول رفض صفقة القرن. فمنذ الإعلان عن مؤتمر المنامة المزعم عقده غدا، والسلطة الفلسطينية تحشد ضده.
شعارات كثيرة تقول عاليا بأن صفقة القرن لن تمر. ترهيب وتهويل لما سيجري بالمنامة ودعوة للمقاطعة العربية وإعلان الاضراب خلال أيام انعقاد المؤتمر في الضفة الغربية والاحتجاجات. ولا يعرف أحد ما هي صفقة القرن الا من خلال اشاعات وتحليلات وتغريدات متفرقة.
البيت الأبيض أعلمنا أخيرا، وقبيل ساعات لا تفصلنا كثيرا عن مؤتمر المنامة، بتفاصيل الصفقة المكونة من ٤٠صفحة، وكشف لنا التفاصيل المكونة من المليارات الخمسين التي ستوزع “علينا” أولا، ويتقاسم باقيها الأردن ومصر ولبنان. يبدو الامر وكأن البيت الأبيض بقيادة ترامب اخذ دور الإدارة والتنفيذ المباشر لمشاريع (اليو اس ايد) التي اوقفها ترامب نفسه، منذ ان بدأ كما في كل مرة، بالتلويح لإيقاف مشاريع الدعم الامريكية.
إذا ما تركنا ترامب في حاله، فبعد صاروخ إيران الذي اودى بطائرته الأمريكية الحربية، فان الرجل يحتاج للكثير من التروي، فما قامت به إيران، يبدو وكأنه أكثر جدية من احتمالات عروض القوى الامريكية وحلفائها. ولكن لنركز قليلا بطرح ترامب لخطته القرنية، والتي تبدو فيما أعلن عنها استثمارية بجدارة، فالجماعة يريدون انشاء صندوق استثمار عالمي (بالنهاية فان صندوق الاستثمار الفلسطيني كالصندوق الأسود، لا يعلم ما به غير حفنة قليلة ولا نعرف عنه الا ما يخرج من تسريبات بشأن رواتب خيالية ومشاريع نهب لموارد هذه البلاد ببطون رجال السلطة)، وستتضمن المشاريع فتح ممر سفر، يربط غزة بالضفة. بالإضافة الى الاستثمارات والفرص التجارية الكثيرة.
الحقيقة، وبعيدا عن التحليلات الممكنة او المتوقعة، بين تلك التي يمكن اعتبارها ذكية وتلك التي من المرجح سذاجتها ما المشكلة بهذا الطرح؟ او بالأحرى ما الغريب او الجديد فيه؟ لماذا ترفضه السلطة؟
هل السبب يكمن في عدم إدارة السلطة لهذا الصندوق المقترح؟
لأننا إذا ما نظرنا حولنا، فان كل ما يريده الشعب اليوم، او بالأحرى يصبو اليه في وقت تاهت القضية في تفاصيل السلطة وغرقنا نحن الشعب في فسادها، فلم يعد يهم المواطن العادي الا لقمة عيشه وبقائه. فالمزيد من الإنعاش الاقتصادي والتجاري وفكفكة بعض الحصارات ستكون جل ما ينتظره المواطن العادي.
تحسين الطرقات، او بالأحرى فتح طريق يربط غزة بالضفة، يبدو مشروعا رائعا(!) مشروع توحيدي بجدارة، في وقت بعثرنا فيها الانقسام السياسي(!) فلم لا يكون هناك تعبيد لطرق الوحدة الممكنة عن طريق، طرق تمولها مشاريع رئاسية أمريكية(!؟) حتى انه يتوجب علينا الشعور بالفخر، فهكذا طرق لن يكون في نهايتها إشارة “هذا الشارع تم بدعم الشعب الأمريكي”، سيكون هذا طريق دعمه الرئيس الأمريكي بذاته(!)
الحقيقة ان كل الأمور تبدو مرتبة لهكذا طريق، فالمعابر المختلفة صارت حدودية ولا ينقص إضفاء الرسمية عليها أي شيء. لنا فقط ان ننظر الى قلنديا، وبيت لحم، وحزما، ومدخل عناتا، وموديعين. المعابر جاهزة لحل ما قادم.
فما مشكلة السلطة اذن؟
لماذا تعترض السلطة على صفقة لا تختلف عن باقي الصفقات التي تم بيع وشراء فيها الوطن والمواطن تحت مسميات السلام الاقتصادي والمصالحة (مع إسرائيل) وتسريب الأراضي وصفقات ملعونة لا نعرف عن معظمها، أدت الى تسرب الوطن حتى من بين أيدينا.
لماذا علينا ان ننبذ صفقة القرن بينما ستحل أمور الخلق المادية، بينما لا تستطيع السلطة دفع رواتب موظفيها، في نفس الوقت الذي تضاعف فيه رواتب وزرائها وتستمر في غمر المقربين منها من الحوافز والامدادات.
لماذا علينا ان نبذ صفقة القرن ولم تتقدم السلطة خطوة في إيقاف السفارة الامريكية التي كانت شعلة مرحلة جديدة لصفقاتهم؟ لماذا لم تتقدم السلطة بخطوة فاعلة واحدة في وقت كان من الممكن ان تقوم بالكثير، ولكن على العكس سبقتها الولايات الامريكية في خطوات تركيعيه، لان ترامب يفهم لغة التخاذل والتركيع. يفهمها جيدا بحسه التجاري. يعرف من اين تؤكل كتف الجشع. القدس تتسرب من بين أيدينا في مشاريع استعمارية تتمدد حتى قلب الحارات والبيوت. المدارس تأسرلت، والبيوت تتهود، والانسان يلهث وراء لقمة العيش، بينما يترك للنهش بين استعار الاحتلال وتنكيل السلطة بفساد بات يصل الي كل مكان.
لماذا ننبذ صفقة ولقد تحول الوطن كله بأيدي السلطة الى صفقة؟
لماذا ندعو الدول العربية لعدم المشاركة والتطبيع والسلطة تبيع دروسا بالتطبيع من اعلى هيئاتها؟
لماذا ننبذ صفقة لا نعرف عنها أي تفصيل، وما تم كشفه يبدو مفيدا لتحسين حياة الناس التي لم تعد تسأل الا عن قوت يومها وخلاصها؟
لو جلس ترامب مع أبو مازن واتفق معه على صفقة القرن، كان الوضع سيكون ملائما أكثر لنا؟
هناك حقيقة وحيدة عرتها صفقة القرن. اسقطت من خلالها ورقة التوت الوحيدة التي كانت تستر على السلطة وحلفائها من دول الجوار. تسعيرة مالية محددة يفهمها الثور الأمريكي، يعرف كيف ينطح غريمه!
الصفقة الحالية، علتها بالنسبة للسلطة تبدو بمبدئية سحب البساط من تحت أرجل السلطة، وان كانت ذاكرتي تسعفني ببعض التفسير، قد يكون السبب الذي أنهى الحياة السياسية لرئيس الوزراء السابق رامي الحمدلله (قبل انشغالنا بأحجية من سيكون رئيس الوزراء الخليف)، عندما أعلن عدم موافقته على شروط اليو اس ايد بداية شباط الحالي، الذي رأينا بعده اعلان استقالته او تنحيه او المسعى لإزاحته لإيجاد بديل. ولم يقدم الرجل في حينه ضربة حقيقية للأمريكان، كل ما ادلى به تحفظا على شروطهم التي صارت تعجيزية حتى لرئيس الوزراء بالقبول بها.
قد يكون ما يجري مع السلطة هو أكبر دليل على عدم نجاعة سياسة الانهزام والتطويع. فالقوة تريد قوة امامها. والقوة ليست بتلك المالية والعسكرية بقدر ما هي قوة الايمان بما لديك من حق لتكون صاحب قوة (ونحن نرى هذا بمثل ايران بالأمس، وما تقدمه المقاومة في غزة من نماذج متكررة). بكل اسف، ان صفقة القرن ما هي الا تصفية طبيعية لتفاهمات أوسلو التي عرتنا أولا من ارضنا التاريخية، وها هي تعري السلطة، التي قبلت الهوان، من سلطتها.
صفقة القرن ومؤتمر المنامة التي نرفضه بشدة، ما الذي يضمره من غرابة وشر أكبر؟
بالتأكيد، ان صفقة القرن بما فيها اجتماع المنامة، سيبحث عن لاعبي جدد في منظومة الانهيار الفلسطينية. يذكرني ما يجري اليوم، – وما أقرب الامس باليوم ولا يوجد من يعتبر-، بموقف سجله التاريخ لحوار دار بين المندوب السامي البريطاني ومحافظ القدس في حينه موسى كاظم الحسيني الذي كان محبوبا ومقبولا للانتداب، لما كان يمثله من انضباط تنفيذ للأوامر. الا انه عندما اعترض على تنفيذ قرار تعسفي جديد ضد الشعب، وقرر ان يقدم استقالته، وقال بكل عنفوان للمندوب السامي بأن ما يطلبه لن يقبله حتى أكثر الناس خيانة. رد عليه المندوب السامي واثقا، بل سيقبل اخرون، بل هناك من قبل، وقرار تعيين بديلك بالجارور. وكان رئيس بلدية القدس التالي هو راغب النشاشيبي. وطبعا منذ تلك اللحظة صارت فلسطين مقسمة بين أنصار النشاشيبي والحسيني كما نرى اليوم تماما بين أطراف النزاع المتكاثرة في هذا الوطن المنقسم على نفسه.
ما يجري من قبل السلطة من هلع وشجب مرتبط بخوفهم من انتهاء صلاحية وجودهم بالنسبة للراعي الأمريكي واذرعه الصهيونية المختلفة. هذه المرحلة تتطلب تصفيات أكبر لا يمكن للسلطة الحالية ان تقدمها. ليس لأنها نزيهة، خطوطها الحمراء فيما يمكن ان يباع من هذا الوطن محددة، ولكن لأن الفساد استشرى بها، لدرجة لم يعد هناك ثقة يمكن ان يتم اعتمادها لأي صفقة ممكن ان يتم تمريرها.
حركة فتح، وبعد دعوتها لإضراب عام خلال أيام انعقاد مؤتمر المنامة تراجعت، – وقد يكون في التراجع حكمة غير معهودة- لتأكدهم بأن الشارع الفلسطيني لن يلبي نداء الاضراب. فستكون الدعوة للإضراب صفعة لهم.
في وقت كانت تستطيع السلطة فيه ان تثبت لهذا الشعب انها تحارب وتقاوم من اجله ضد ما يخططه ترامب وحلفائه ضدها-ضدنا- على الأقل بردود ولو شكلية تحترم عقولنا بشأن الفساد. وهنا بالتحديد الفساد المتعلق برواتب الوزراء والاستحقاقات التبذيرية وما يجري بالسفارات من تجاوزات، في وقت تعلن فيه السلطة عن تخفيف الرواتب. ومن جهة اخري يقوم وزير المالية بخفض ضريبة الدخل على الأغنياء من ٢٥ بالمئة الى عشرة، وكأن ما يجري هو خصخصة كل موارد هذا الشعب لجيوب طبقة الأغنياء المتمثلة في معظمها برجال السلطة.
الشارع الفلسطيني فقد الثقة بالسلطة وبكل ما يمثلها، وهذا ما يفهمه بوضوح الخصوم من الجهة الصهيونية بكامل تشكيلاتها. وعليه، لم يعد الهدف إيجاد بديل لابي مازن، لأنه صار من الواضح ان المنظومة التي يرعاها أبو مازن قد تهالكت، ولقد حان الوقت لإيجاد اخرين…. هذه المرة حفنة من التجار، الذين يرون بالمال حلول لكل شيء، كما ترامب. تجار يستطيعون تدبير شؤون الشعب بإسكاته إذا ما رموا باتجاه الجياع من المتلهثين بعض القروش.
نعم تهاوت السلطة ولقد هوينا معها. لان القادم سيكون بالفعل أقبح.
ولكن يبدو اننا ندخل بحقبة لن تكون الدبلوماسية عنوانها، بل المساومة بمبدأ “على عينك يا تاجر”.
اشترك في قناتنا على التليجرام: https://t.me/alsabahalyemeni0
خليك معنا