الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
قراءة التاريخ تستدعي الوقوف عند مفهومه وتصوره قبل الخوض في مضامينه والتعامل معه منهجياً، والقاعدة عند المناطقة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن هنا فإن التاريخ من حيث ماهيته لا يقف عند وقائعه وحوادثه بل يجمع بين جنباته الحدث والواقعة وواقعها وشخوصها وكيفية تعاطيهم معه وطرائق تفكيرهم في مواجهة مشكلاتهم وما حققوه في دائرة عمرانهم الحضاري ومسارهم في استدعاء أطرهم المرجعية وكيفية تنزيلها على واقعهم وما أفضى بهم سيرهم في ضوء أهدافهم ومقاصدهم نجاحاً أو فشلاً.
ولئن كان التاريخ بكل مقوماته تلك خارج أطر التحكم تغييراً وتعديلاً، فإن لقارئه القدرة على فهم مساراته وإدراك مسالكه، بشرط أن يحسن الدخول إليه من بابه؛ ولكون التاريخ وقائع وحوادث وحركة علم وعمران، فإن الدخول إليه يستلزم العلم بمضامينه كلها في سياقاتها التاريخية، فإن الاجتزاء يوقع القارئ في دائرة الاختلال من حيث الفهم والتعسف من حيث الحكم، وعليه فإن أول ما يلزم قارئ التاريخ أن يقف عند الواقعة التاريخية من حيث صدق وصحة النقل وثبوتها، فما آفة الأخبار إلا رواتها، وما التاريخ إلا أخبار منقولة، وما أكثر المنحول منها وفيها، وعلى هذا ينزَّل ما ذكره بعض المؤرخين الغربيين من أن بناء مستقبل جديد يستلزم بناء تاريخ جديد.
ومن مقتضيات القراءة في المرحلة التالية استدعاء المنهج السنني بنوعيه الكوني والاجتماعي، فإن الحدث التاريخي قوامه تجارب الإنسان في مواجهة مشكلات واقعه زماناً ومكاناً، وإذا كان الأمر كذلك فإن من الضروري أن يقف القارئ لهذا الحدث عند مستوى التفكير والتحليل والتعاطي مع مسار المشكل في ذلكم الواقع، ما لم يتحقق ذلك فإن الحدث التاريخي لا يتجاوز عند القارئ المنهجية السردية؛ ذلك أن الأبعاد السننية في القراءة التاريخية تمد القارئ بمنهجية صائبة يكشف بها أسباب الحدث ومسبباته ومسار الاختيار الإنساني فيه صواباً وخطئاً، ونحن المسلمين بما أوتينا من منهجية الوحي الموصوف بكونه حكماً إلهياً ملزماً للخلق في جميع شؤونهم، لنا القدرة –بالقوة أو بالفعل عند إحسان استثمارها- على إدراك أبعاد هذا الحدث التاريخي ليس فقط في دائرة الفعل والاختيار الإنساني مع واقعه وكونه، بل كذلك الوقوف عند آثار الفعل الإلهي في دائرة الحكم الكوني والتدبيري مقابل الموقف الإنساني من الحكم الشرعي استقامة أو انحرافاً.
فإذا استحضر القارئ المنهجية السننية في قراءته للتاريخ، يقف بعدها عند ثمرة القراءة ومقاصدها الأساسية، وهي رفد حاضره بمقومات إحسان الفعل الإنساني في الحاضر بما يصحح مساره، فيتجاوز أخطاء الماضي وكبوات شخوصه، ويتلمس مواطن الصواب فيه، وإنما يضمن له ذلك استحضاره لمنهجية الاعتبار أو ما يمكن تسميته بفقه الاعتبار، وهو الذي يعني النظر في دلالة الأشياء والأحداث على لوازمها وعواقبها وأسبابها، وقد دلت على هذا المعنى آيات الاعتبار سواء بلفظه أو بمعناه، قال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾[الحشر: آية 2]، وقال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾[النمل: آية 69]، فكل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان سيراً حسياً بالأقدام أو سيراً معنوياً بالتفكر والاعتبار، فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك، ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه ما حصل الاعتبار.
هذا البعد المنهجي في قراءة التاريخ يلزم أن تكون معه وسائل وآليات تعضد وتساند القارئ في تحقيق مقصوده من القراءة، وأهمها وسائل القراءة مصادر التاريخ ومراجعه، والدائرة الإسلامية لها في مسارها التاريخي نماذج وأمثلة تسهم في رفد القارئ بمقومات القراءة الصحيحة للتاريخ، ولا شك أن التخصص العلمي مع صوابية المنهج يجعل القارئ مطمئناً أو آمناً في تعاطيه المنهجي مع المتخصصين، وهذا يسري أيضاً على المنصفين من المتخصصين من خارج هذه الدائرة، ولكن مما نلفت نظر القارئ إليه أيضاً أن هناك روافد تاريخية يطمئن القارئ إليها وإن لم تكن في ذاتها متخصصة في التاريخ، وأهمها القرآن الكريم الذي أمدنا بمراجعة تاريخية لقصص وأخبار الأمم السالفة وأوقفنا على أحد أهم أدوات العلم وهو فقه المراجعة، ثم تأتي كذلك السنة النبوية والسيرة النبوية .. وهكذا.
إن إحساننا لقراءة التاريخ يُمكِّننا من امتلاكه بالقدر الذي يجعله رافداً من روافد الإحسان في السير في الأرض، وملهماً لنا في بناء مستقبل واعد نتجاوز به عثرات الماضي وكبوات الحاضر، فمن الضروري السعي لترميم الذاكرة التاريخية بتقريبها أكثر من الواقع التاريخي، وتحويل تاريخنا بوجهيه المضيء والقاتم إلى ماضٍ حي يزخر بالعبرة والخبرة.
خليك معناالمصدر: ملتقى المؤرخين اليمنيين