الصباح اليمني_مساحة حرة|
لعلّ المفارقة الأكثر إثارة للضَحك بالنسبة لمَن يتابع أحداث الموجة الأخيرة مما سُمّي بالربيع العربي، خروج أصوات قوية ضمن التحرّكات الشعبية الربيعية في البلدين اللذين أجمع العالم الغربي على نزاهة العملية الانتخابية التي أتت بحكومتيهما (لبنان، العراق) تطالب الجيش بالتحرّك لإلقاء القبض على الطبقة السياسية الحاكِمة فيهما وزجّها في السجون بسبب فسادها.
يحدث هذا فيما كان الشعار الرئيسي في التحركات الشعبية الربيعية في البلدان التي تتهم بالعسكرة مثل (الجزائر مصر السودان)، هو المطالبة بعمليةٍ سياسيةٍ حرةٍ وفق المقاييس الغربية، وبمنع الجيش من التدخل في الحياة السياسية وذلك تحت شعار (لا لحُكم العسكر). خلال ذلك رقصت كل من النخب الإخوانية والليبرالية على النغمتين المتناقضتين برشاقة تامة، وانساق قسم كبير من مُدّعي اليسار والعروبة مع الموجة الثورية الملوّنة، إما بدافع الإغراء المالي كما هي عليه الحال في أغلب الأحيان، أو بدافع السذاجة والحماس لكل ما هو ثوري في أحيانٍ أخرى.
لكن تلك المُفارقة ومثيلاتها من المفارقات المُضحِكة تتم في سياق بالغ المأساوية والدراماتيكية، يتم خلاله دفع العالم العربي دفعاً نحو الفوضى والتحلّل، عبر استغلال الفشل التاريخي للدولة الوطنية في إنجاز مهمتها بالتنمية وتحقيق الازدهار الاقتصادي. ذلك الفشل الذي كانت وراءه في الواقع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي فرضتها الولايات المتحدة على تلك الدول فرضاً، من خلال المؤسّسات الدولية التي تموّلها مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك من خلال النُخَب الحاكِمة في العالم العربي والتابعة لواشنطن، حيث تم فرض الخصخصة والاقتراض اللامحدود كأساسين قامت عليهما الحياة الاقتصادية في كل من مصر ولبنان والأردن، وفي الجزائر في مرحلة ما قبل العشرية السوداء، حيث كانت تلك السياسات الاقتصادية المُدمّرة العامل الرئيس وراء إفقار المجتمع، والتمهيد لصعود التيار الإخواني، ما تسبّب بدورة العنف التي شهدتها الجزائر خلال تسعينات القرن الماضي.
في بلد مثل لبنان مثلاً لا يمكنك أن تعطي تحليلاً عن كارثة الانهيار الذي انتهى إليه الاقتصاد من دون أن تفهم جذور النظام اللبناني الحالي، الذي تشكّل إثر تسوية سورية-سعودية عام 1989 أنهت الحرب الأهلية اللبنانية وسُميت باتفاق الطائف، حيث أسندت مهمة إدارة الوضع الاقتصادي حينها للفريق المدعوم من قِبَل السعودية وعلى رأسه رئيس الحكومة “رفيق الحريري”، بينما أسندت مهمة المقاومة لحزب الله المدعوم من قِبَل كل من سوريا وإيران.
اليوم وبعد 30 سنة يتّضح لكل مُنصِف أن الحزب نجح في مهمته نجاحاً باهراً فمنذ العام 2006 على الأقل وإلى اليوم، وعكس ما كانت عليه الحال بين لبنان وإسرائيل منذ أقيم الكيان الصهيوني، يبدو أن الإسرائيليين عاجزون تماماً عن الاعتداء على لبنان، وذلك بعد أن تم طردهم منه شر طردة وبلا شروط عام 2000.
بالمقابل قامت نظرية رفيق الحريري الاقتصادية على أن السلام مع “إسرائيل” قادم، وأنه سيتم شطب ديون الدول التي توقّع على معاهدات السلام، لذلك يجب على لبنان أن يستدين أكثر ما يمكن.
بالنتيجة تراكمت الديون اللبنانية حتى وصلت اليوم إلى نحو 90 مليار دولار حيث أصبح لبنان غير قادر على دفع حتى فوائد الديون، (خدمة الدين تأكل كامل الناتج القومي اللبناني). والمثير أكثر أن معظم هذه الديون ذات الفوائد المرتفعة هي في الواقع ديون داخلية لصالح المصارف اللبنانية، التي تمتلكها النخبة السياسية الحاكِمة، أي أن الأمر برمّته عملية نهب منظّمة للمجتمع اللبناني من قِبَل حكّامه.
لكن وبعكس مجريات التاريخ وبشكل لا يتّسق منطقياً مع ما حدث في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية، نجحت واشنطن بواسطة أدواتها الإعلامية وبمساعدة التمويل الخليجي وعبر نشطاء منظمات الـ NGEOS المرتبطة بوزارة الخارجية الأميركية في الداخل اللبناني (منظمات تحت مُسمّيات بريئة كالمحافظة على البيئة ودعم حقوق المرأة وحتى حقوق الحيوان)، نجحت في ركوب موجة الاحتجاج الشعبي اللبناني المُحقّة، وفي التحكّم بمسارها، وإعادة توجيه الغضب نحو حزب الله بعيداً عن الطبقة السياسية التابعة للغرب ولدويلات الخليج.
فالاحتجاجات ومنذ اليوم الثالث كادت تخلو من الشعارات المُندِّدة بالحريرية السياسية وبشريكها المُضارِب وليد جنبلاط، بل إن معظم الجدل والهجوم تركّزا على حلفاء حزب الله (التيار العوني وحركة أمل) ومن ثم انتقلت الشعارات إثر خطاب السيّد نصرالله الثاني لتهاجم حزب الله صراحة، وبدأت التنسيقيات الثورية بالتشكّل وبإصدار البيانات المطالبة بنزع سلاح المقاومة، بما يتطابق تماماً مع الأجندتين الأميركية والصهيونية، لتتراجع مطالب مُكافحة الفساد ووقف نهب المال العام، وتحلّ مكانها المواجهة مع حزب الله.
مع ذلك وبفضل الخبرة الواسعة التي تتمتّع بها المقاومة اللبنانية يبقى النجاح الأميركي في لبنان محدوداً إذا ما قورِن بما تحقّق في العراق، حيث تمكّن نشطاء المنظمات المرتبطة بوزارة الخارجية الأميركية والتي تتلقّى تمويلاً خليجياً تحت مُسمّى منظمات غير حكومية، تمكّنوا من سلب الإدراك الحسّي والذاكِرة والوعي من قطاعات من الشباب الغاضب في محافظات الجنوب العراقي، من ثم دفعوها إلى مهاجمة مقار الحشد الشعبي العراقي، ومراكزه العسكرية والأمنية، ما نتج منه مشهد متوحّش يشبه المشاهد التي كانت تجيد “داعش” تصنيعها، ففي يوم 26 من الشهر الجاري لاحق جموع الشباب الغاضب أحد أبرز قيادات الحشد الشعبي “وسام العلياوي” ليقتلوه داخل سيارة الإسعاف مع أخيه، وذلك بعد إصابته إثر اقتحام المتظاهرين أحد المقار العسكرية التابعة لـ”عصائب أهل الحق”، أحد أهم الفصائل التي سبق أن قاتلت قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية في بغداد وجنوب العراق.
لمَن لا يعلم عن “عصائب أهل الحق”، كان مقاتلو هذا الفصيل يشكّلون الهمّ الأكبر في جنوب العراق للجنرال “ديفيد بترايوس” قائد القوات الأميركية خلال فترة تواجد أكثر من 250 ألف جندي أميركي في ذلك البلد قبل عام 2011، حيث مارس مقاتلو التنظيم اصطياد الجنود الأميركيين في شارع فلسطين في بغداد، وأعطبوا المدرّعات الأميركية والبريطانية في محافظات الجنوب، وعقدوا صفقات تبادُل الأسرى مع الاحتلال، ومن ثم شكّلوا مع حزب الله العراق النواة الصلبة لقوات الحشد الشعبي التي حمت بغداد ومحافظات الجنوب العراقي من الاجتياح الداعشي، ومن ثم كان لهم النصيب الأكبر في عملية تحرير محافظات وسط العراق وإسقاط مخطّط تقسيم البلاد، كما كان لهذه الفصائل دور هام في مساندة الجيش العربي السوري خلال مواجهته للإرهاب العابِر للحدود في سوريا، ودور في حماية المنطقة من الخطر التكفيري، ليلقى “وسام العلياوي” أخيراً حتفه على يد مَن نَذَرَ حياته لحمايتهم، ولتبقى النخبة السياسية الفاسِدة التي دخلت العراق على ظهر الدبابة الأميركية عام 2003 في منأى عن المصير الذي لقيه العلياوي.
لقد دخل الفصيل الذي ينتمي إليه القيادي الشهيد البرلمان العراقي في انتخابات عام 2013 عبر نائب واحد، ليضاعف حضوره البرلماني خلال الانتخابات الأخيرة وينجح في الفوز بـ 15 مقعداً برلمانياً، ويحوز على وزارة واحدة هي وزارة الثقافة، لم يسلّمها العصائبيون لأحد أولادهم أو رفاقهم، إنما أتوا بشخصية علمانية من خارج خطهم الجهادي، هو الباحث “عبد الأمير الحمداني” ليُدير الوزارة، التي تحوّلت تحت إدارته لأحد أنشط الوزارات العراقية وأنظفها، أي أن الفصيل العسكري الذي ينتمي إليه القتيل بعيد كل البُعد عن آفة الفساد ونهب المال العام التي أجّجت الغضب الشعبي العراقي، كما أنه فصيل مُعتَرف به ضمن الحشد الشعبي الذي تحوّل بمرسوم جمهوري إلى قوات نظامية، وإلى جزء من القوات المسلحة العراقية، تأتمر بأمرة القائد العام للقوات المسلحة.
تؤكّد دروس الموجة الأخيرة من الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي خطورة مقولة إن الشعوب تقود نفسها بنفسها، وإنها تعرف طريقها لوحدها، فالشعب يعرف فقط أنه يعاني من دون أن يرصد سبب المُعاناة، هنا يأتي دور النخبة لكي تحدّد العلّة وتضع البرنامج الثوري.
كما أن الدروس الأخيرة تثبت ما سبق أن أظهرته الموجات الأولى من الربيع، من قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على أي حراك شعبي عربي وإعادة توجيهه بما يتوافق مع مصالحها، وذلك بفضل سيطرة التمويل الخليجي على ما يزيد عن نسبة 80% من وسائل الإعلام التي تشكّل الوعي السياسي في العالم العربي، وكذلك بفضل واقع الاختراق الأميركي العميق للنخب العربية.
لا شك لدينا أن محور المقاومة سيجد قريباً الوسائل المناسبة للردّ على الجهة التي تقف وراء موجة الفوضى الأخيرة في كل من لبنان والعراق ( الولايات المتحدة الأميركية)، وأنه سينجح كالعادة في مفاجأة الخصوم وفي تحويل التحدّي إلى فرصة، وربما يشكل ذلك مناسبةً لتصفية ما تبقّى من نفوذ أميركي في كل من لبنان والعراق، لكن ما حدث يُنبّهنا مجدّداً إلى ضرورة إغلاق الثغرة التي لا زال عدونا يتسلّل منها، وهي ميدان القوة الناعِمة ووسائل صناعة الأفكار وتشكيل الوعي السياسي، وهو المجال الذي لا زال يمتلك فيه تفوّقاً مُطلقاً.
خليك معنا