بدأ هذا المسار السفير العراقي نزار حمدون، ثم تبعه السفير السعودي بندر بن سلطان وأكمله — وبرع فيه — يوسف العتيبة، السفير الإماراتي الحالي في واشنطن. كيف تصبح سفيراً عربيّاً أو خليجيّاً ناجحاً في مدينة تعجّ بالسفراء من كل حدب وصوب؟ لا شكّ أن بندر بدأ هذا المسار في التمثيل الفاعل لنظام خليجي وأكمله مساعده، عادل الجبير، عندما كان سفيراً، ثم يتفوّق فيه هذه الأيّام يوسف العتيبة.
والسفير الناجح يصبح لاعباً في السياسة المحليّة في العاصمة التي يُفوّض لها. وتاريخيّاً، كان لسفراء بريطانيا (ونادراً فرنسا) حظوة خاصّة عند الرؤساء وصانعي القرار في أميركا. نادراً ما وصل سفير عربي إلى مركز القرار. وعندما أدارت وزارة الدفاع الأميركيّة «لعبة حرب» افتراضيّة قبل سنتيْن لم يُدعَ للمشاركة فيها من السفراء إلّا العتيبة والسفير البريطاني.
مرّ على مدينة واشنطن الآلاف من السفراء عبر العقود. وأهميّة السفير تعود بالدرجة الأولى إلى البلد الذي يمثّل وتعود أيضاً إلى شخصيّة السفير، لكن شخصيّة السفير لا أهميّة لها حتى لو كان السفير متفوّقاً في إبراز وجهة نظر بلاده إذا كانت دولته معادية لسياسات الحكومة الأميركيّة. ونادراً ما يلعب سفراء دول الشرق الأوسط أدواراً مؤثّرة خصوصاً وأن الحكومة الأميركيّة تدرك أن آليّة صنع القرار في دول الشرق الأوسط لا تنبثق عن أعراف وقوانين في داخل مؤسّسات معمولة بها في تلك الدول.
وهي تدرك أيضاً أن السفير ليس إلا حامل رسائل، وهي تفضّل عادة التواصل مع الحاكم مباشرة، وغالباً خارج نمط التعاطي الدبلوماسي. اكتشفنا مثلاً من وثائق الخارجيّة الأميركيّة أن الحكومة الأميركيّة كانت تطلب من الرئيس اللبناني (شارل حلو وسليمان فرنجيّة بعده) أن ينتدب عنه مندوباً سريّاً كي يتولّى شؤون العلاقة الأميركيّة ـ اللبنانيّة (وكان ميشال خوري هو مندوب الحلو فيما كان لوسيان الدحداح مندوباً لسليمان فرنجيّة، وكانت الوثائق الأميركيّة تشير إليه كـ«المندوب السرّي»، كما ورد في إحدى وثائق «ويكيليكس من عام ١٩٧٦ عن الدحداح). وكان السفير اللبناني في واشنطن خارج نطاق المداولات (ولا يمكن نفي الأسباب الطائفيّة لهذا الإجراء لأن السفير في واشنطن كان من غير طائفة الرئيس ولا يمكن الوثوق به بأمور تتعلّق بالتواصل الإسرائيلي ـ اللبناني المباشر في حينه).
وتصنّف الحكومة الأميركيّة السفراء بناء على مصلحتها مع الدول المعنيّة، وعليه فإن سفير دولة الاحتلال الإسرائيلي يحظى بترحيب واحتفاء مهما كانت شخصيّة السفير. أما سفراء لبنان وسوريا فكانت العلاقة معهم تمرّ بين مدّ وجزر، إذ كانت وزارة الخارجيّة تستدعيهم في حالة غضب الحكومة من دولهم وتحصر التعاطي معهم بموظّفٍ في أسفل السلّم، فيما كانوا يحظون بلقاء مع مساعد وزير الخارجيّة لشؤون المنطقة في حالات التحسّن في العلاقة، أو عند ظهور بوادر تحسّن في شروط السلام مع دولة العدوّ.
كان بندر سبّاقاً في التنسيق مع المنظمّات الصهيونيّة في الولايات المتحدة
إن الدور السياسي الذي لعبه بندر بن سلطان في الماضي، والذي يلعبه اليوم يوسف العتيبة، ما هو إلا تقليد لتجربة سفير الشاه الإيراني في واشنطن، أردشير زاهدي (وساعد في إعلاء نفوذ السفير أنه كان متزوّجاً لفترة قصيرة من ابنة الشاه). هذا كان من أبرز سفراء المنطقة على مدى عقد من الزمن (خدم في المنصب في أوائل الستينيات ثم في السبعينيات حتى اندلاع الثورة الإيرانيّة).
وبلغ نفوذ زاهدي السياسي إلى درجة أن زبغنيو برجنسكي أقام قناة اتصال خاصّة وسريّة بينه وبين السفير، الذي كان مصدر معلومات للمجلس الأمن القومي عن الحالة الايرانيّة، بالرغم من تضارب المصالح الواضح (راجع في هذا كتاب جيمس بيل، «النسر والأسد: تراجيديا العلاقات الإيرانيّة ـ الأميركيّة»، ص. ٤١٠). إن مسلك ونمط عمل زاهدي في واشنطن كان القدوة الذي احتذاها فيما بعد بندر بن سلطان.
أقام زاهدي علاقات وثيقة جدّاً ليس فقط مع صانعي القرار في البيت الأبيض والمشرّعين في الكونغرس، لكنه وطّد العلاقة مع اللوبي الإسرائيلي. (والوصول إلى قلب واشنطن عبر اللوبي الإسرائيلي بات من أعراف الدبلوماسيّة العربيّة، والتي سلّم بها راشد الغنّوشي وباقي إخوان المنطقة العربيّة).
لكن بندر كان سبّاقاً في التنسيق مع المنظمّات الصهيونيّة وفي دعوتها لزيارة الرياض لعقد اجتماعات على مستوى رفيع مع أفراد في الحكومة. والذي سهّل مهمّة بندر في واشنطن هو:
١) قربه من الحاكم، أي الملك فهد. وكان بندر (أو فهد) يصرّ على أن يقوم هو بمهام المُترجِم في لقاءات فهد مع المسؤولين الأميركيّين (وهو انتدب عادل الجبير للمهمّة فيما بعد). وكان فهد شديد الثقة به، مما زاد من أهميّة دوره في نظر المسؤولين الأميركيّين.
٢) لم يكن عقائديّاً، لا إسلاميّاً ولا عربيّاً، وهذه النوع من العرب الذين ينبذون العقائد محبّذُ عند الأميركيّين، خصوصاً هؤلاء الذين لا ترد كلمة فلسطين على ألسنتهم.
٣) الخلفيّة العسكريّة لبندر — بالرغم من المبالغات المفخّمة عنها — ساعدت في قربه من شركات تصنيع السلاح ومن القطاع العسكري ـ الاستخباراتي في أميركا.
٤) انخرط بندر في الحياة الاجتماعيّة للنخبة وأجزل المنح والعطايا على إعلاميّين ومسؤولين نافذين.
٥) برز بندر في دوره كأميركي، لا كعربي، حتى أنه كان يحضر مباريات كرة القدم الأميركيّة ويزعم أنه من أشدّ مناصري فريق «دالاس كوبوي».
٦) قدرته على الإنفاق من خارج الحساب الخاص بالسفارة، وتمويله لعمليّات أميركيّة استخباراتيّة وعسكرية سريّة حول العالم (وخلافاً للقانون الأميركي أحياناً، كما في تمويل عمليّات الـ«كونترا»).
مهمّة يوسف العتيبة كانت أسهل من مهمّة بندر لأن العتيبة خدم الجيل الثاني من حكّام الإمارات، وتعلّم من تجربة نزار حمدون وبندر بن سلطان. لكن العتيبة تفوّق على بندر في الرغبة في التطرّف في التحالف مع اللوبي الإسرائيلي، خصوصاً في جناحه الليكودي. وبرز طموح العتيبة (ابن أوّل وزير نفط للإمارات، مانع سعيد العتيبة، المعروف بحب اقتنائه للشهادات غير المُستحقّة والأشعار المُبتاعة) مبكِّراً إذ أنه قصد وهو طالب جماعي السفير الأميركي، فرانك وزنر2، في القاهرة وأشرف الأخير على توجيهه وحَثّه على الحصول على شهادة من جامعة جورجتاون3، ألحقها فيما بعد في دراسة في جامعة الدفاع الوطنيّة (العسكريّة) في العاصمة الأميركيّة.
عمل العتيبة مستشاراً لشؤون الأمن القومي لمحمد بن زايد، وأصبح صلة الوصل بينه وبين القطاع العسكري والاستخباراتي الأميركي. وبعد ضجّة «موانئ دبي» التي هزّت صورة دولة الإمارات في أميركا في عام ٢٠٠٦، عندما حدث لغط حول دور شركة موانئ دبيّ التي كانت على وشك أن توقّع عقوداً مع موانئ أميركيّة. كل التعصّب والعداء الغربي التقليدي ضد العرب والمسلمين تجمّع ليعطّل الاتفاقيّة. أدرك النظام الإماراتي أنه يحتاج إلى مزيد من العمل الدعائي لتغيير صورته — أي صورة النظام وليس صورة العرب والمسلمين — في أذهان الأميركيّين.
أُرسلَ بن زايد العتيبة مبعوثاً إلى واشنطن في عام ٢٠٠٨ واستطاع في سنوات معدودة أن يصبح من أبرز السفراء في العاصمة. ساعده في ذلك عوامل عدة، منها:
١) أنه يستعمل ثقافته الغربيّة لإبهار محدّثيه بالمصطلحات المحكيّة الأميركيّة — على طريقة بندر الذي كان يستعين بفريق من المستشارين الأميركيّين لتلقينه بعض العبارات المحكيّة. وهو مثل بندر أيضاً، ينخرط في الحياة الاجتماعيّة الأميركيّة للنخبة في العاصمة، ويقيم حفلات مُبهِرة (لضيوفه) في منزله في ضاحية مكلين4. وعلى عكس بندر، لا يحب العتيبة لفت الأنظار إليه، ويفضّل العمل بسريّة تامّة. وهو نادراً ما يعطي مقابلات صحافيّة، ويفضّل الحديث «أوف ذا ريكورد».
٢) تعلم الحكومة الأميركيّة أن العتيبة قريب جدّاً من صانع القرار في أبو ظبي. والعلاقة بينه وبين بن زايد تمتد على مدى سنوات. وسهولة التواصل بين العتيبة وبن زايد تساعد على تسهيل وتلبية طلبات الحكومة الأميركيّة، خصوصاً في المجالات العسكريّة والاستخباراتيّة. وكما في حالة بندر، يتطوّع نظام الإمارات لخدمة حروب أميركا وعمليّاتها المخابراتيّة القذرة.
٣) مثل بندر قبله، يستعين العتيبة بدفق هائل من المال ليوفّر له القدرة على السيطرة على آراء نخبة الخبراء والإعلاميّين. وحالما بدأ العتيبة بممارسة مهامه عيّن مسؤولة التشريفات في إدارة جورج بوش مستشارةً له. ولم ينجح في جذب أنظار واشنطن إليه بسحر شخصيّته، وإنما بالإنفاق المالي الهائل — الخاص والرسمي — على مراكز الأبحاث ونجوم الإعلام الأميركي.
لا يخفي العتيبةصداقته الحميمةمع السفير الإسرائيلي في واشنطن
و«مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة» في واشنطن بات معتمداً بصورة كبيرة على التمويل الإماراتي الذي تكفّل بإنشاء المبنى الفخم الجديد للمركز. وهذا التمويل يضمن بصورة أكيدة التوافق بين إنتاج مراكز الأبحاث وتوجّهات الحكومة المموّلة.
والتسريبات البريديّة من الحساب الإلكتروني للعتيبة كشف الكثير عن عمل هذه المراكز، حيث يقوم السفير بتمويل مؤتمرات وجولات اطلاعيّة إلى الدولة المعنيّة ولقاءات مع مسؤولين حكوميّين في دولة الإمارات بالإضافة إلى التنسيق في المواقف السياسيّة.
إن طريقة عمل السفير العتيبة في واشنطن هي تعبير عن نواقص الديموقراطيّة الأميركيّة التي تتيح لأصحاب الأموال التأثير فيها وعليها. كما أن «نجاح» — النجاح بالمعنى السلبي لأن المعيار هو خدمة مصالح نظام استبدادي متصالح مع الصهيونيّة — السفير العتيبة هو تعبير فرعي عن نفوذ اللوبي الإسرائيلي.
لو أن السفير العتيبة، مثلاً، يهتم بقضيّة فلسطين، ولو أنه في أحاديثه، أو في أحاديث محمد بن زايد، لا يوافق على سقف أدنى حتى من السقف المتدنّي لـ«مبادرة السلام السعوديّة» — كما ورد في وثيقة لـ«ويكليكس»، لما كان بمستطاعه تمويل دكّان فلافل في واشنطن. عندما كان النظامان العراقي والليبي ينتهجان مواقف معادية لإسرائيل، لم يكن بمستطاعهما تمويل جامعات أو مراكز أبحاث. الإنفاق والتأثير مُتاحان فقط لمن ينضوي في ركب اللوبي الإسرائيلي. بمعنى آخر، إن نجاح يوسف العتيبة هو في حقيقته نجاح للوبي الإسرائيلي، لا له.