لم يكتفوا بما آل إليه حال حلب. لم يشبعوا من مشاهد السلخ والذبح في الموصل. لم يثنهم منظر بن غازي وقد تحولت إلى «مقلب كرّي ونيس». لن نذهب بعيداً… لم تكفهم آهات تعز وصراخها، ولا فوضى عدن. كانوا يتمنون أن تتحول صنعاء إلى قندهار. سال لعابهم ترقباً للمشهد الدموي، لكنه جفّ مرة واحدة.
لم يشاهدوا ما حلموا به، كانوا يتوقعون أن تمتلئ سائلة صنعاء بالدماء، وأن تتزاحم الجثث في الطرقات والأرصفة. كانوا يدركون جيداً أن خمسة ملايين مسلح يستمعون لخطاب صالح وسط العاصمة، واليد، طبعاً، على الزناد. كلمة واحدة من الرجل كانت كفيلة بتحويل صنعاء إلى موقد يذوّب جليد القطب الشمالي.
خاب الأمل، وطفت الحكمة، وانتصر العقل.
صحيح أن الحشود عادت ولم تُشبع حاجتها من الحماسة، لكنها أمضت ليلها في كنف العائلة، بعكس ما كان يُخطط لها من الخارج، ويتمناه لها هوامير الداخل. كانوا يريدونها أن تنام ذبيحة، قبل أن تُحشر في ما يشبه حلبة مصارعة رومانية يقتل فيها البعض بعضه بتشجيع وتصفيق من الإعلام الفاسد والعالم «الحر». لكم أن تتخيلوا المشهد، لو أن صالح قامر بالملايين في ساعة نشوة لا يتحكم بنفسه أمامها إلا صاحب عقل كبير ونظرة ثاقبة.
قد يقول قائل إن الجماهير التي خرجت إلى ميدان السبعين ليست كلها مُحِبة لصالح، بل إن هناك جزءاً منها خرج معارضاً للحوثي، في تعبير يشبه مقولة «عدو عدوي صديقي»؛ كون حدة الخلاف كانت قد بدأت بين حلفاء صنعاء، وقد يقول آخر كنا نتوقع من صالح ما هو أكثر من الترحيب بنا، كأن يوجه رسائل لأنصاره بفرملة الشهوة والشغف بالسلطة وإيقاف السطو على مؤسسات الدولة.
متجمهر آخر يرى أن صالح تجاهل الدعوة إلى المصالحة بين اليمنيين، لقد سئم الحرب على حد تعبيره، وخروجه إلى السبعين كان يصب في هذا الإطار. محتشد آخر وليس أخيراً كان يتمنى من صالح وعداً جاداً أو خطاباً صريحاً لحكومة الأمر الواقع بصرف المرتبات التي طال انتظارها، فيما توقع آخر ولو مجرد إشارة تعيد زخم سبتمبر وأكتوبر إلى روح الجماهير.
لا نختلف على أن كل هذه الأمنيات والتوقعات مشروعة، ولكن لنا أن نتخيل حجم الملايين وحجم أمنياتها، وكما يُقال «إرضاء الناس غاية لا تدرك».
لكن في المقابل، هناك من كان يتوقع أن يطلق صالح رصاصته في وجه الأمن والأمان المتبقيين في هذه المدينة، وذلك من خلال اصطدامه المباشر مع الحوثيين، وإعلانه الحرب ضدهم، ليأتي ويحكم على جثث ممزقة ومدينة من رماد، أو على الأقل ليتشفى ويشفي غليله بعدوّ يرى أنه كاد أن يبدّده.
ما هكذا تورد الإبل، ولا هكذا يكون شرف المواجهة، فلو أن الجحيم استضاف صنعاء لحظة واحدة للسع بحممه الجميع، بمن فيهم أبعد الأبعدين عنها، وهذا ما لا يقبله عقل ولا منطق، ولا يرضى به مواطن محب لوطنه.
إن العمل السياسي السلمي والمدني، في هذه الأثناء بالذت، هو المترجم الوحيد لكل التطلعات. إذا أردنا أن نكبح جماح جماعة ما، ونعيدها إلى رشدها، أو نعدّل من سياسة حزب معين، فما علينا إلا أن نتحلى بالحكمة ونتخلى عن العنف، فالبلد لا يسمح بالمزيد من التشظي، وهذا ما أوحى به صالح في خطابه. نتفق أو نختلف مع خطاب الرجل، إلا أنه خير من ترجم لنا مقولة «السياسة فن الممكن». نعم كنا نتمنى منه الكثير والأكثر، لكنه لم يقل سوى الممكن.