الصباح اليمني_مساحة حرة|
في أعقاب هزيمة دول المحور الرأسمالية، الألمانية – الإيطالية – اليابانية أمام تحالف الجانب الآخر من الرأسمالية، الأنكلوسكسونية بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي، اجتمع المنتصرون في يالطا (ستالين، روزفلت، تشرشل) ووضعوا خارطة العالم الجديد آنذاك، بيد أن الأمور لم تمض على هذا المنوال، إذ صار النظام النقدي العالمي تحت سيطرة الدولار الأميركي وفق اتفاقية “بريتون وودز”، فيما نهضت قوى جديدة في آسيا هي الصين، وانتهت الحرب الباردة بالانهيار السوفياتي وتقدم الصين في المشهد الرأسمالي العالمي، وظن الإمبرياليون أن التاريخ قد انتهى عند أقدامهم، كما افترض فوكوياما.
بعد أقل من عقدين، كان الدب الروسي يفرك عينيه مجدداً، ويتطلع إلى المجال الأوراسي كله، فيما راحت الصين عبر طريق الحرير الجديد تقترب من تصدر الاقتصاد العالمي، وسط تفاقم الأزمات البنيوية للنظام الرأسمالي الأنكلوسكسوني وملاحقه غرباً وجنوباً، وسقوط أقنعته الليبرالية المزعومة وآخرها تبني نسخة جديدة من النازية في أوكرانيا ودعمها، وكذلك الأصوليات التكفيرية في كل مكان.
في ظل هذه الظروف، فإن قمة موسكو بين الرئيسين الروسي والصيني، ليست قمة عادية بل أشبه ما تكون بـ “يالطا” جديدة مختلفة عن سابقتها من حيث الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، فماذا عن هاتين القوتين:
التنين الصيني
تعد الصين من الحضارات العريقة القديمة التي ينسب إليها البارود والبوصلة والعملة الورقية المبكرة وصناعة الورق والخزف والنقوش المختلفة، وقد دخلت طور الحضارة في الألفية الأولى قبل الميلاد، وشهدت أكثر من تجربة لتوحيد اللغة والأرض بالتزامن مع ظهور تيارات ومدارس فكرية معروفة، مثل الكونفوشية التي انشغلت بالتربية والإنتاج أكثر من الروحانيات الآسيوية الأخرى، ومثل الطاوية أو التاوية المنسوبة إلى لاوتزو.
تعرضت الصين لغزوات جيرانها، واحتلت مرات عديدة من المغول واليابانيين والبرتغاليين والإنكليز، لكنها تمكنت في كل مرة من طردهم، وصولاً إلى المرحلة الحالية، التي باتت فيها قاب قوسين أو أدنى من تسيّد الاقتصاد العالمي، وقد كان من عناوين تلك الحروب وتداعياتها ما عُرف بـ”حرب الأفيون” التي فرضها المستعمر البريطاني منتصف القرن التاسع عشر، وقبلها “حرب الفضة” إذ كانت الصين تعرف بـ”إمبراطورية الفضة”، كما عرفت بـ”بلد السور العظيم” الذي شيّدته في وجه الغزوات المغولية، وتمكنت أيضاً وفي وقت مبكر من تطوير صناعة السفن التجارية والحربية الكبيرة.
من الذين أرّخوا للصين القديمة وسياساتها وصناعاتها، الرحالة العربي، ابن بطوطة، في القرن الرابع عشر، وكذلك مبعوث المدن الإيطالية الصاعدة، ماركو بولو، أما تاريخها الحديث فبدأ من صن يات صن، وإعلان الجمهورية 1912 رداً على تخاذل الإمبراطور أمام الإنكليز واليابانيين، فيما تسبب وريثه شان كاي تشك في تراجع الصين أمام الغزاة من جديد، ما أعطى فرصة تاريخية للحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ للإمساك بزمام المبادرة، وتحويل الفلاحين إلى قوة تحرير جبارة، وإطلاق مشروع توحيد الصين وتحريرها، ووضعها على طريق الاشتراكية عام 1949.
بيد أن وفاة ماو أدخلت الصين في خضات عديدة انتهت إلى شكلها الحالي بالجمع بين تحولات رأسمالية وبين بقاء الحزب الشيوعي على رأس الدولة، إلى جانب قطاع عام واسع في حقول اقتصادية واجتماعية مختارة، ويعد الرئيس الحالي شي جين بينغ أقوى زعيم في تاريخ الصين الحديث بعد صن يات صن وماو تسي تونغ.
تعدّ الصين أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان (مليار و400 مليون نسمة) معظمهم من الهان إلى جانب أقليات عرقية ودينية أخرى، كما تجاور الصين دولاً عديدة مثل: روسيا والهند وما يعرف بـ بلدان الهند الصينية (فيتنام، لاوس، كمبوديا، سيام..الخ)، وتمتد الجغرافيا الصينية على سواحل واسعة منها بحر الصين الجنوبي الذي يعد من البؤر الساخنة في العالم، بالإضافة إلى هضبة التبت وأنهار طويلة مثل النهر الأصفر واليانغ تسي، اللذين يشكلان مصدراً هاماً للعمالة والإنتاج في القطاع الزراعي.
تقدّر قيمة الإنتاج المحلي في الصين بنحو 12 تريليون دولار وبمعدل نمو 7% مقابل أقل من 4% في الولايات المتحدة الأميركية، وباحتياطي مالي يقدر بـ 3 تريليون دولار، ومن المعطيات الأخرى حول هذا البلد:
– تحتل الصين المرتبة الأولى في الصناديق السيادية وبواقع 1.35 تريليون دولار.
– يشكل الجيش الصيني واحداً من أكبر الجيوش في العالم وأقواها، من حيث العدد (نحو 3 ملايين)، ومن حيث القدرات التقنية، ويتوقع رفع نسبة الإنفاق العسكري من حجم الإنتاج الإجمالي الذي يبلغ حالياً 3% فقط.
– بلغت نسبة المتعلمين في الصين 96% من السكان، مع تقديرات تصل إلى 700 مليار دولار، هو حجم الإنفاق السنوي على التعليم، كما تعدّ الصين ثالث أكبر بلد من حيث عدد مراكز الأبحاث.
الصين في الاستهدافات الأميركية
بالإضافة إلى المعطيات السابقة، وإلى جانب كل المؤشرات التي تضعها في مقدمة الاقتصاد العالمي في غضون العقد القادم، وفق ما جاء في كتاب روبين ميريديث “الفيل والتنين” الصادر عام 2009، ودراسة مارتن جاك تحت عنوان “عندما تحكم الصين العالم”، ودراسة هارولد جيمس “هل تكون الصين أميركا الجديدة” والدراسة الإيطالية المبكرة لـ سلفيا بنديتيتي “الصين، الدولة الأولى في العالم بحلول العقد الثالث من الألفية الجديدة”، يمكن التوقف عند المعطيات والمؤشرات التالية التي جعلت الصين مع روسيا هي الهدف الاستراتيجي المباشر للإمبريالية الأميركية:
– تطور العلاقات الروسية – الصينية إلى مستوى غير مسبوق، وبخلاف العقود بل القرون السابقة التي تميزت بالتوتر بينهما، سواء من خلال العهد القيصري والصراع على منشوريا ونهر آمور، أو خلال مرحلة ستالين وخروتشوف، فإن العلاقات في عهد بوتين شهدت تحسناً كبيراً وصل حد التنسيق الاستراتيجي عبر البريكس وتجمع شنغهاي، ولقاءات القمة الدورية المشتركة والاتفاقيات التي نجمت عنها في كل الحقول العسكرية والاقتصادية والأمنية، فضلاً عن ارتفاع مستوى التبادل التجاري إلى أكثر من 172 مليار دولار عام 2022.
– بالتزامن مع المشروع الروسي الأوراسي المتناقض موضوعياً مع المصالح الأميركية، طرحت الصين طريق الحرير الذي تنظر إليه واشنطن كخطر استراتيجي لا يقل عن خطر المشروع الروسي الأوراسي، ومن تداعيات هذا الطريق الإمساك الصيني المتزايد بأهم الموانئ العالمية، سواء بالتنسيق مع شركات الموانئ الكبرى أو بعقد اتفاقيات محلية وإقليمية شملت موانئ مثل: هامبا نتوتا في سيلان وجوادار في باكستان وجيبوتي وموانئ غينيا الاستوائية وأخرى في أميركا اللاتينية.
– الحيثيات التي وردت في كتاب “النموذج الصيني” للكاتب دانيال بيل وقدرته على توليد آليات ديمقراطية خاصة بخلاف الليبرالية الغربية، تضاعف من التقدم والتطور الاقتصادي الصيني (سبق وتم استعراضه في مقال سابق على موقع الميادين بعنوان النموذج الصيني).
– الحيثيات التي قدمتها دراسات المفكر المصري، سمير أمين، من مفكري نظرية فك التبعية، والذي استفاد من دراسات عالمية أخرى حول تبدل العلاقات بين المركز والمحيط وكيف تحولت الصين من محيط عالمي إلى مركز عالمي بفضل التوازن بين الرأس والقدمين، رأس تقني – إداري وقدمان من التصنيع المتنوع، الثقيل والإحلالي والاستهلاكي، بعكس الولايات المتحدة، رأس تقني – دولاري مقابل جسم يتضاءل صناعياً رويداً رويداً بسبب انتقال خطوط الإنتاج الأقل تطوراً في كل مرة إلى المحيطين العالمي والإقليمي (كندا – المكسيك – الأرجنتين – البرازيل).
– استعادة الصين لتقاليد قديمة في صناعة السفن الكبرى التي توقفت خلال غزوات المغول من أجل بناء السور العظيم، فالصين اليوم واحدة من أعظم القوى البحرية في العالم.
– التوسع في المجالات الحيوية، الإقليمية والدولية، سواء عبر الجاليات الصينية الكبيرة في بلدان مثل سنغافورة وماليزيا وغيرهما، أو عبر تجاوز الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي في عالم الإقراض والاستثمارات الخارجية، ولا سيما في بلدان كبيرة محسوبة على النظام الرأسمالي مثل باكستان والأرجنتين.
لكل ذلك، فإن تخلي الصين عن الاشتراكية كما روسيا، لم يمنع الغرب الرأسمالي من استهدافها كلما تقدمت أكثر في قلب النظام الرأسمالي نفسه، فمن حلف أوكوس الأنكلوسكسوني، واشنطن ولندن وأستراليا 2021 ضد الصين، إلى التحرش بالبحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان (جزيرة صينية لم يشملها توحيد الصين وتحريرها عام 1949)، إلى اللعب بأوراق مذهبية وطائفية كما بقايا الإقطاع البوذي وممثله الداي لاما في التبت، وكما في حالة الإيغور (من أصول تركية) شمال غرب الصين، وذلك من خلال دعم “داعش” في صفوفهم وتجنيدهم للقتال في سوريا وغيرها مقدمة لإعادتهم إلى الصين كمخربين في بلادهم لمصلحة أقلام الاستخبارات الغربية.
يشار هنا إلى أن أول ظهور للوهابية في منطقة الإيغور كان عام 1894 وفق ما جاء في كتاب محمد عبد الله السلمان، “دعوة الشيخ” صفحة 90، وذلك بالتزامن مع نشاط المخابرات البريطانية في تلك المنطقة.
خليك معناالمصدر: الميادين نت