الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
أثار كتاب “تقسيم اليمن.. بصمات بريطانية” للباحث عبدالله عامر، جدلاً بوصفه قدم زاوية جديدة للحديث عن الاحتلال البريطاني وخططته في تقسيم جغرافيا شمال اليمن، خلاف ما اقتصرت عليها التدوينات التاريخية في احتلال وتقسيم جنوب اليمن فحسب.
هذا الزاوية الجديد، عملت على تشريح العقلية البريطانية التفكيكية والتي بدأت قبل أكثر من 100 عام، واستمرت في حلقات تقسيمية متتالية حتى انتهت بمشروع أقلمة اليمن تحت مظلة الدولة الاتحادية.
الفصل الأول: التقسيم في العقلية البريطانية.
يبدأ الكتاب في الحديث عن الخطط البريطانية التي تمكنت من تقسيم المنطقة العربية والعالم الاسلامي إلى دول وبعضها دويلات صغيرة، وهذا المشروع يعود لنشأة بريطانيا القائمة على تحالفات مملكتين، انجلترا واسكتلاندا، في مطلع القرن الثامن عشر ثم لحقت بهن ايرلاندا في مطلع القن التاسع عشر، تحت مظلة بريطانيا العظمى.
هذه الاتحادات الدولية أعطت العقلية البريطانية خبرة في صناعة المنطقة العربية وفق لدويلات بعد أن كانت تحت مظلة الدولة العثمانية.
وقبل الحرب العالمية الاولى في 1914م كانت هناك ست دول عظمى تتنافس على دول العالم العربي والاسلامي، عرفت بدول الحلفاء وهي: بريطانيا وفرنسا وروسيا، ودول المحور وهي: الامبراطورية العثمانية والمانيا والنمسا.
ولما انهزمت دول المحور، دخلت الامبراطورية العثمانية في الحلقات الأضعف في تاريخها والتي كانت تسيطر على دول الشام وشبه الجزيرة العربية عدا عدن والمحافظات اليمنية الجنوبية والشرقية، أدى ذلك إلى تنافس بريطانيا وفرنسا وألمانيا على تركة هذه الدولة ليستقر الاتفاق على هيمنة بريطانيا على دول الخليج والحجاز واليمن ما عدا الجزء الجنوبي والشرقي منها.
ولأن بريطانيا تعي أن الدخول في حرب مباشرة مع الدولة العثمانية في الجزيرة العربية سيعكس ذلك تعاطف المسلمين العرب ضدها باعتبارها دولة نصرانية فيما العثمانيين مسلمين، وهو ما جعلها تلجأ إلى دفع رموز من أبناء الجزيرة العربية ودعمهم عسكرياً ومالياً كعبدالعزيز بن سعود والملك حسين، وذلك لقيادة الثورة مع استنهاض الهوية العربية بين القبائل مقابل الهوية العثمانية.
وعقب الحرب العالمية الاولى، شرعت في تقسيم المنطقة وبعد أن دخلت في نزاعات مع حليفاتها على بلاد الشام، وتركزت تحديداً، حول فلسطين وسورية.
كانت فرنسا تريد فلسطين بدوافع تاريخية تعود إلى الحروب الصليبية، فيما روسيا تريد سوريا ليكون لها منفذ بحري الى البحر المتوسط وهي عقدة جغرافي تعاني منها روسيا وما تزال إلى الآن في محاولة الحصول على منفذ بحري كما تؤكد ذلك اهتمامها بسوريا الآن وجعلها جرافيها تقع تحت مظلتها.
مع ذلك فإن اللوبي الصهيوني كان مؤثراً على بريطانيا فآلت فلسطين للصهاينة بعد أن وعد البريطاني “بلفور” تقديمها لهم.
وقد تحولت المنطقة العربية إلى الشكل التالي: ذهاب فلسطين إلى صهاينة، والعراق للملك حسين، والاردن للملك عبدالله، ونجد والحجاز لعبدالعزيز ال سعود، وترسيم الحدود لدويلات خليجية قطر والكويت وعمان، أشبه بمحميات بريطانية، أما اليمن فقد توسع ال سعود بدعم بريطاني إلى عسير ونجران حتى الحديدة، إلا أن اليمنيين في الشمال استعادوها فيما بعد، وظلت عدن والمدن الجنوبية تحت الحماية البريطانية، وهو ملف استطرد فيه الكتاب في الفصل الثاني والثالث.
الفصل الثاني: مخططات تقسيم اليمن.
يدخل المؤلف في صُلب فكرة الكتاب، وهي تقسيم اليمن في الخارطة البريطانية، ويسرد المنطلقات الأولى للتقسيم والتي بدأت بمفاوضات بين البريطانيين والعثمانيين عام 1900 لرسم الحدود بين الشمال والجنوب.
ولأن اليمنيين بعد خروج العثمانيين من الشمال رفضوا الدخول تحت الوصاية البريطانية فقد تعاملت الأخير بعداء واضح بدأ بالتغريب وانتهى بشن حرب عسكرية على مناطق تهامة، فبدأت باستراتيجية عزل الشمال والسيطرة على تهامة والتي سمتها بالركن الجنوبي الغربي.
استراتيجية السيطرة على الركن الجنوبي الغربي:
تبنى هذه الاستراتيجية الضابط والتون، وتفصح هذه الاستراتيجية عن السيطرة للركن الجنوبي الغربي لليمن، وهي المنطقة التي تشمل تعز وعدن ولحج مع التمدد شمالا للحديدة.
وتكمن أهمية السيطرة على تعز في حديث “والتون”، حين قال “إذا سيطرنا على هذه المدينة لن نحتاج إلى قاعدة عسكرية في باب المندب، واذا لم نتمكن من السيطرة على تعز فالسيطرة على العند لمنع أي قوات تتقدم إلى عدن”.
وكل هذه الخطة هدفها عزل الهضبة الشمالية عن ساحل البحر الأحمر، وخنقها من أي منفذ بحري للضغط على سلطة صنعاء على القبول باتفاقيات مع بريطانيا لتكون حماية عدن من أي تقدم عسكري، أو التفكير باسترجاعها وضمها في إطار يمن موحد.
وعن احتلال الحديدة والسيطرة على مينائها، المنفذ الوحيد للهضبة الشمالية هو ما سيتحدث عنه الكتاب في الفصل الثالث بتفصيل.
ولا تكمن خطورة العقلية البريطانية في خطتها العسكرية في تقسيم شمال اليمن، وخنقه من أي منفذ بحري، ولكن تكمن أيضاً، في دراستها المُبكرة للتركيبة الديموغرافية اليمنية وبنية المجتمع السيسيولوجية، فقدمت دراسة قسمت اليمن مذهبياً وجهوياً، تقضي بفصل المناطق الوسطى وأبرزها تعز والحديدة باعتبارهما شافعية واستنهاض الهوية المذهبية ضد هوية الإمام يحيى الزيدية.
ولقد نقل الباحث من مراجعه بأن السيطرة على تعز الشافعية تقضي بتنصيب شخصية تكن العداء لسلطة صنعاء الزيدية.
لكن هذه الخطة احبطتها القبائل اليمنية في المناطق الوسطى والشمالية نتيجة لتماسكها في مشروع التصدي للاحتلال البريطاني عدا الحديدة التي تمكنت عبر أدواتهم الادارسة في 1918م لأسباب كثيرة.
الفصل الثالث: خنق اليمن اقتصادياً.
في هذا الفصل ركز الباحث في سرد الخطوات العملية للاحتلال البريطاني لخنق اليمن وذلك من خلال السيطرة على مدينة الحديدة.
حاولت بريطانيا فرض ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب مع سلطة الامام في صنعاء غير أن رفض اليمنيين أدى إلى تحريك بريطانيا للأدارسة في عسير للتقدم نحو تهامة، انتهت بالسيطرة على الحديدة في 1918م بعد أن كثف الاحتلال قصفه على المدينة بالطيران وقتل 500 مدني، وسلمتها للأدارسة في 1921م، ولم تتحرر الحديدة إلا في 1925م.
وقد تمكن اليمنيون من استعادة الحديدة نتيجة لتحويل المعركة إلى المحميات الجنوبية، أدى هذا الضغط، إضافة إلى حصول سلطة صنعاء على سلاح من ايطاليا، إلى إجبار بريطانيا التخلي عن الحديدة.
وإلى جانب خنق الشمال اقتصادياً بحرمانه من ميناء الحديدة فقد فرضت بريطانيا حظراً دبلوماسياً بمنع أي تخادم دبلوماسي من أي دولة مع الشمال.
الفصل الرابع: فصل عسير ونجران.
في هذا الفصل يسرد الباحث، قصة اقتطاع عسير ونجران من سيادة وجغرافيا اليمن، وأول منعطف في هذه المنطقة كانت حادثة تنومة وسدوان عام 1923م، وهما منطقتان تعرض فيهما حجيج يمنيين إلى الاعتداء، قتل فيها ما يقارب ثلاثة آلاف حاج يمني ولم ينجو منهم إلا قليل.
وعلى قدر الجدل الذي دار حول الجهة المتهمة بالمجزرة هل هو بن سعود أم الاحتلال البريطاني نقل الباحث أراء طرفين: الأول يتهم بن سعود والرأي الثاني يتهم الاحتلال البريطاني، ثم يقدم مقاربة بأن الاحتلال البريطاني هو من كان وراء هذه العملية لإشعال فتيل الحرب بين سلطة صنعاء وبن سعود، لكن لا تعفيه بنفس الوقت منها.
والراجح أن بريطانيا هي من كانت وراء الحادثة، لأنها كانت في مرحلة صدام حاد مع الامام يحيى نتيجة لمساعيه في استعادة عدن، فخططت لهذه المجزرة لغرض إدخال الامام يحيى بحرب مع بن سعود، لكن الامام يحيى تواصل مع بن سعود فأنكر الأخير أن يكون هو من أمر بها فانتهت الحادثة دون صدام.
عاد اليمنيون في الشمال للضغط باتجاه تحرير المحميات الجنوبية، ولما بدأوا بالتوغل قدمت بريطانيا مساومات بالتوقف عن التقدم، مقابل استرجاع منطقة عسير ونجران والاعتراف بسيادة الامام إلا أنه رفض هذا العرض، فبقيت عسير ونجران تحت سلطة وبن سعود نتيجة لقوته العسكرية ودعم بريطانيا له.
الفصل: الخامس والسادس
في هاذين الفصلين، سلط الباحث الضوء على تقسيم بريطانيا للشطر الجنوبي، إذ بدأت فكرة الاتحادات الجنوبية عام 1925م، وانطلق تطبيق التقسيم في عام 1934م، حينها كانت اتفاقية المعاهدة في ترسيم الحدود الشمالية الجنوبية بين الامام يحيى والاحتلال البريطاني لمدة أربعين سنة.
ومع مرور الاحداث في المنطقة وانبعاث القومية العربية التي قادتها مصر عهد جمال عبدالناصر وانطلاق الثورات العربية ضد الاستعمار البريطاني في خمسينيات القرن الماضي وانضمام الامام أحمد للجمهورية العربية بقيادة مصر بدأت بريطانيا في إطلاق مشروع (الجنوب العربي) في محاولة فصل عدن عن هويتها اليمنية مع الشمال، لإحباط الحركات الثورية الجنوبية المطالبة بطرد الاحتلال والاتحاد مع الشمال.
ونتيجة لمواقف سلطة صنعاء الراغبة في إعادة المناطق الجنوبية تحت يمن موحد، اشتغلت بريطانيا مع السلطات السعودية على فصل المناطق الشرقية اليمنية المتمثلة بحضرموت والمهرة.
كانت السعودية عينها على حضرموت والمهرة فبدأت بالزحف نحو منطقة الشرورة، والعبر في خمسينيات القرن المنصرم، والاتجاه نحو حضرموت كانت الحدود الشرقية مع السعودية غير محددة لأنها كانت تخضع للاحتلال البريطاني.
والملاحظ أن السلطات السعودية أرسلت ضابط مع وفد سعودي إلى حضرموت للقاء بمشايخ حضرموت والمهرة واغرائهم بالانفصال والانضمام إلى السعودة غير أنهم رفضوا تلك العروض.
والمهم في هذا كله، أن اهتمام السعودية لحضرموت جاء نتيجة معلومات تقول، أن هذه المدينة تتموضع على بركة مليئة بالنفط، ثم لكونها منفذ إلى بحر العرب، ولما طُرد البريطانيون من عدن بثورة 14 اكتوبر استمرت السعودية في محاولتها السيطرة على حضرموت، والتوسع في الاراضي اليمنية حتى أعلن في 1972م رئيس الوزراء وزير الدفاع علي ناصر محمد، عن مؤامرة سعودية أمريكية عمانية تقوم على احتلال حضرموت والمهرة لتحقيق عدة أهداف منها تأمين منافذ بحرية للسعودية على بحر العرب ثم للاحتمالات العالية على وجود نفط فيها.
أما ظفار التي تقع الان تحت سيطرة عمان كانت يمنية ولكن ضمها الاحتلال البريطاني إلى عمان، ولما قامت ثورة أبناء ظفار ضد السلطات العمانية دعمت بريطانيا وإيران والسعودية عمان ضد الثوار واحبطوا خيارات الناس في تحديد خياراتهم اليمنية.
الفصل السابع: تقسيم اليمن إلى جمهوري وملكي.
بعد قيام الجمهورية، في الشمال، عام 1962م، دعمت السعودية الملكيين بقوة، حتى كادت أن تطيح بالجمهورية لولا الاسناد المصري للجمهوريين، وظلت الصراعات المزمنة ست سنوات.
ولما شعرت مصر بالغرق في اليمن، واستنزافها مالياً وعسكرياً، بدأت في التماهي مع حديث تقسيم الشمال إلى شطرين، أحدها يخضع للملكيين وشطر يخضع للجمهوريين، وينقل الباحث كلاماً في كتاب محسن العيني “خمسون عاما في الرمال المتحركة” للرئيس المصري الأسبق أنور السادات قوله( إن أبناء القبائل الشمالية اتعبونا وعلينا أن نتركها للسعودية لكي تتعامل معهم).
ويتمحور تقسيم الشمال على النحو التالي، المناطق من الجوف حتى صعدة وحجة مع مناطق عمران وصنعاء تصبح تابعة للملكيين، وإب وتعز واجزاء من ذمار والبيضاء وكل مناطق الجنوب الشمالي المحادة للمحميات دولة جمهورية.
ولقد كانت هذه الخطة تستند على التقسيم البريطاني للشمال والذي أورد الكتاب، بدايتها في مطلع القرن العشرين.
ولما جرت المصالحة بين الجمهوريين والملكيين عام 1970م، يقول الباحث وكأن السعودية ضمنت التخلص من الجناح اليساري في الشمال الذي كان له خطاب ثوري قومي ضد المماليك الرجعية، اتجهت مع نظام الشمال بعهد الارياني إلى دعم مناهضة اليمن الديموقراطي في الجنوب، لما كان له من خطاب ثوري ضد ما أسموه الانظمة الخليجية الرجعية.
ولقد كانت من ضمن الشروط السعودية للاعتراف باليمن الجمهوري الشمالي، ضمان محاربة اليسار والقوى التقدمية المرتبطة بعدن، ولهذا نشبت أول حرب شطرية في 1972م.
وصل الرئيس إبراهيم الحمدي للسلطة عام 1974م، واصطحب معه مشروع دولة يرتكز على الوحدة مع الجنوب، وإحداث فارق تنموي تحت مظلة الهوية اليمنية الجامعة.
ولقد تقاربت أفكاره حد التطابق، مع الرئيس سالمين، وبدأ مشروع تنفيذ الوحدة فأذابت حقبته الصراعات الشطرية والمصالحة بين الجنوب وعمان على الحدود، ثم رفضه التنازل عن المناطق اليمنية عسير ونجران بعد انتهاء فترة اتفاقية الـ 40 سنة التي جرت بين الامام يحيى والسطات السعودية.
أدت هذه الاحداث إلى احتشاد مكثف للسلطات السعودية يهدف للتخلص من مشروع الحمدي- سالمين، وهنا ينقل الباحث شهادة محمد حسنين هيكل، بأن احد أخوة الملك فهد، اخبره بأن والدهم المؤسس الملك عبدالعزيز أوصاهم بأن “خيرهم وشرهم يأتي من اليمن”، ولهذا بعد مقتل الحمدي وسالمين عادت الحروب الشطرية من جديد.
وفي الجزء الاخير من الكتاب سرد الباحث قصة الأقاليم الستة التي كانت خلاصة مؤتمر الحوار الوطني التي شاركت فيه كل القوى والاحزاب اليمنية في 2013م، وربط مشروع أقلمة اليمن بالرغبات البريطانية الهادفة إلى تقسيم اليمن منذ أن وضعت خطتها قبل نحو مئة عام في عدن.
ويسند الباحث معلومات مشروع الأقلمة بوصفه مشورعاً بريطانياً على ملاحظته للاهتمام السفراء البريطانيين في الكويت أثناء ما كان أحد الحاضرين في مشاورات الكويت عام 2016م، إذ كان السفراء يطرحون أسئلة عن الكثافة السكانية في اليمن ولماذا يرتفع العدد بشكل دائم؟ ولأن التركيبة الديموغرافية أحد ركائز نهضة الشعوب وذخيرتها الحيوية في الانطلاقة فقد ظلت الخصوبة البشرية المتزايدة في اليمن وفي العالم العربي والاسلامي بشكل عام أحد المخاوف الغربية الأزلية.
ويخلص الكتاب للتأكيد أن بريطانيا كانت تقف خلف مشروع الأقاليم عبر سفارتها في صنعاء ودفعت بتبنيه قوى يمنية والسلطة السياسية حينها بقيادة عبدربه هادي، ويستند في هذه المعلومة إلى كتاب (من ربيع الثورة إلى خريف العدوان) يقول إن لهذه المعلومات وثائق تؤكد عليها.
وفضلاً عما سبق، فإن الباحث قد حشد كماً كبيراً من المعلومات التاريخية، تستنطق البقعة الداكنة التي ظلت مُغيبة عن التنقيب والتأليف، والتي تتمثل بدور بريطانيا في تقسيم اليمن الشمالي، خلاف ما غلب على التدوينات التاريخية التي تقتصر الحديث على دورها في تقسيم جنوب اليمن.
المصدر: صحيفة اليمن الصادرة من صنعاء
خليك معنا