الصباح اليمني_الهند
قال الكاتب الهندي كابيل كوميردي، إن الهجوم الطائفي الذي شهدته مدينة دلهي، خلال الأسبوع الماضي، جاء نتيجة حملة مسعورة تحرض على مص الدماء.
وأوضح الكاتب في مقال نشره “فورين بوليسي” وترجمته “عربي21” الذي أشعل الفتيل في الحقيقة وأدى إلى تفجر مستودع يحتوي على كم هائل من الخوف والسخط المتراكم كان تلك التعهدات التي قطعها على نفسه آميت شاه وزير داخلية الهند وأقرب المقربين من مودي بإعداد سجل وطني للمواطنين يجبر جميع السكان في البلاد على تقديم وثائق تثبت حقهم في المواطنة.
وأضاف: “والذي سيحدث عندما يتم تفعيل هذا السجل أن كل من لا يفلح في الوصول إليه طالما كان من البوذيين أو النصارى أو الهندوس أو من طوائف الجينز أو السيخ أو الزردشت ممن وصلوا إلى البلاد قبل عام 2015 فسينجو بنفسه من معسكرات الاعتقال التي يجري إنشاؤها حالياً من خلال التقدم بطلب الحصول على جنسية رسمية بحسب ما ينص عليه قانون الجنسية المعدل.
وأشار إلى أن المسلمين فقط “هم الطائفة الدينية الرئيسية الوحيدة في الهند، التي أسقطت من الحسبان في قانون الجنسية، وبذلك فسوف يواجهون محنة الاعتقال في المعسكرات الجماعية”.
وفي ما يلي النص الكامل للمقال:
قد تكون الثقافة الهندية قديمة، إلا أن وحدتها نادرة وحديثة. في هذه الأثناء تهدد معاداة المسلمين بقلب أضخم الديمقراطيات في العالم رأساً على عقب
لم يأت سفك الدم الطائفي الذي شهدته مدينة دلهي على مدى ثلاثة أيام خلال الأسبوع الماضي من فراغ، بل جاء نتيجة حملة مسعورة تحرض على مص الدماء.
بدت العاصمة الهندية كما لو كانت تخضع للحصار وذلك قبل وقت طويل من إلقاء أول حجر أو إشعال النار في أول منزل، فمنذ ديسمبر الماضي لم تكف دلهي عن احتلال موقع الصدارة في انتفاضة عمت الأراضي الهندية لتخليص البلاد من قبضة سياسة “الهندوس أولاً” التي ينتهجها رئيس الوزراء نارندرا مودي. وكانت المظاهرات قد اندلعت رداً على قرار الحكومة إدخال تعديلات على تشريع قائم ينص على منح الجنسية على وجه السرعة للأقليات الدينية من ثلاثة بلدان مجاورة هي أفغانستان وبنغلادش والباكستان، وهي الدول التي يعتبر الإسلام فيها دين الدولة الرسمي. إلا أن استثناء المسلمين من نطاق هذا القانون اعتبر بمثابة تمرير خفي لاختبار ديني للمواطنة في دولة معروف عنها دستورياً أنها جمهورية علمانية، وذلك على الرغم من أن القانون لا يشكل تهديداً مباشراً للمواطنين الهنود.
ولكن الذي أشعل الفتيل في الحقيقة وأدى إلى تفجر مستودع يحتوي على كم هائل من الخوف والسخط المتراكم كان تلك التعهدات التي قطعها على نفسه آميت شاه – وزير داخلية الهند وأقرب المقربين من مودي – بإعداد سجل وطني للمواطنين يجبر جميع السكان في البلاد على تقديم وثائق تثبت حقهم في المواطنة. والذي سيحدث عندما يتم تفعيل هذا السجل أن كل من لا يفلح في الوصول إليه – طالما كان من البوذيين أو النصارى أو الهندوس أو من طوائف الجينز أو السيخ أو الزردشت ممن وصلوا إلى البلاد قبل عام 2015 – فسينجو بنفسه من معسكرات الاعتقال التي يجري إنشاؤها حالياً من خلال التقدم بطلب الحصول على جنسية رسمية بحسب ما ينص عليه قانون الجنسية المعدل. المسلمون فقط هم الطائفة الدينية الرئيسية الوحيدة في الهند التي أسقطت من الحسبان في قانون الجنسية، وبذلك فسوف يواجهون محنة الاعتقال في المعسكرات الجماعية وسيصبحون بلا جنسية إذا ما أخفقوا في إبراز الوثائق الضرورية لإثبات حقهم في أن يدرجوا ضمن السجل الوطني للمواطنين.
ضمن الاحتجاجات التي شملت البلاد طولاً وعرضاً وفجرتها سياسات مودي وشاه، تشاهد امرأة منقبة تجلس في أحد الاعتصامات في حي من أحياء دلهي رفرفت فيه الأعلام الهندية ورفعت فيه صور مهاتما غاندي وبيمراو أمبيدكار، المحرر الرئيسي للدستور الهندي، فيما بات يشكل نواة لأكبر تحد ديني تواجهه سلطة الحكومة الحالية. إلا أن الحكومة لم تعمد إلى إزالة التجمع الاحتجاجي لأن وجوده في تقديرها يصب في مصلحة الحكومة. فخلال حملتهم للانتخابات المحلية في دلهي الشهر الماضي، حاول أعضاء حزب بي جيه بيه بزعامة مودي استنفار المصوتين من خلال وصم المعارضين بالخيانة. وذات ليلة محمومة في شهر ديسمبر، وضمن نفس الحملة الانتخابية، اقتحمت شرطة دلهي، التي يتولى أمرها بشكل مباشر وزير الداخلية شاه، مكتبة جامعة الملة الإسلامية – وهي الجامعة التي شارك في تأسيسها ذاكر حسن، المناضل المسلم في سبيل الحرية والذي ارتقى حتى أصبح ثالث رئيس لدولة الهند المستقلة. انهالت الشرطة بالضرب على الطلاب الذين كانوا يتخذون من المكتبة ملاذاً. وفي أمسية أخرى، ألهب وزير آخر في حكومة مودي الجماهير المحتشدين بإطلاق شعارات تحريضية كان ذروتها عبارة “اقتلوا الخونة”.
خسر حزب بي جيه بيه الانتخابات، إلا أن دلهي كانت على وشك أن تتحول إلى برميل من البارود، وذلك حين تعهد سياسي آخر من حزب بي جيه بيه في حضور أحد ضباط الشرطة بأن يكنس المحتجين السلميين المسلمين المتجمعين من منطقة شمال شرقي دلهي في الأمسية التي سبقت وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الهند في زيارة رسمية استغرقت ستاً وثلاثين ساعة. لا يعرف أحد من بادر بإلقاء الحجر الأول، إلا أن الدم بدأ يسيل في نفس تلك الليلة. وشهدت الأيام الثلاثة التالية انهيار ضواحي العاصمة الهندية تحت وطأة أسوأ عنف ينشب بين المسلمين والهندوس منذ عقود بعد انطلاق عصابات في أرجاء الأحياء المختلطة تعيث فيها فساداً، تحرق المنازل وتخرب أماكن العبادة وتلقي بقنابل المولوتوف داخل المنازل وتذبح الناس لمجرد الانتساب إلى دين غير دينهم.
وصل عدد القتلى حالياً إلى ثمانية وأربعين، إلا أن القتل لم يكن متكافئاً، فعلى الرغم من أن المسلمين يشكلون أقلية صغيرة من سكان المدينة إلا أن عدد وفياتهم كان ثلاثة أضعاف عدد وفيات الهندوس. كانت هناك استثناءات شجاعة، ولكن كانت هناك أيضاً مقاطع فيديو يظهر فيها عناصر من الأمن الهندي وهم يمدون يد العون للهندوس ضد المسلمين. في أحد الأحياء، لفظت امرأة مسنة مسلمة أنفاسها عندما أضرمت النيران بمنزلها. وفي حي آخر، أضرمت النار برجل مسلم فالتهمته وهو حي أمام أفراد عائلته. في هذه الأثناء يقوم أنصار رئيس الوزراء ومن ينتسبون إلى معتقده باستعراض قتلى الهندوس – وأحدهم تعرض للطعن مئات المرات ثم ألقي به في المجاري – بهدف الإيحاء بأن هؤلاء إنما هم ضحايا جهاد يشنه المشاغبون المسلمون ومن يتواطأ معهم من العلمانيين.
إلا أن ما جرى في دلهي لم يكن سوى مقدمة لمقتلة عظيمة تعد للمسلمين. لكنها مقتلة يزهق فيها إضافة إلى أرواح المسلمين تلك الثقة التي استغرق بناؤها بين أتباع الديانتين عقوداً، فباتت الآن أدراج الرياح. سوف تزال الأنقاض ويعاد بناء المنازل ولكن الكثيرين ممن كانوا حتى وقت قريب يعيشون في وئام جنباً إلى جنب سيظلون لأجيال يرمق بعضهم البعض بنظرة من العداء والريبة. وهذا بالنسبة للناس العاديين ما هو سوى نتاج تلك السياسة الانفصامية التي يمارسها حكام الهند الحاليون.
ومع أن مودي، ومنذ أن وصل إلى موقع رئيس الوزراء، تجنب شخصياً استخدام الخطاب المفضي إلى النزاع والشقاق، فإن الوكلاء داخل حزبه ممن يتبنون الخطابات السامة سبيلاً لتحقيق مجد سياسي آني إنما يسيرون على درب زعيمهم ويتقفون آثاره. ففي عام 2007، عندما كان ما يزال شخصاً غير مرغوب فيه في معظم أرجاء العالم لتزعمه حملة قتل جماعية أودت بحياة الآلاف من المسلمين في عام 2002 بوصفه وزيراً أول في ولاية غوجرات، أثار مودي هيجان جمع من المصوتين الهندوس الأثرياء حينما سخر من الاحتجاجات الليبرالية ضد إعدام سجين مسلم خارج نطاق القانون تحت سمعه وبصره. حينها، قال مودي مخاطباً الجمهور “إذا تم العثور على بنادق كلاشينكوف في محل سكن شخص ما، فقولوا لي ماذا علي أن أفعل: ألا يجدر بي أن أقتله؟” فرد عليه الحشد بصوت واحد: “اقتلهم! اقتلهم!”
بينما كان مودي يخطط لاعتلاء سلم السلطة في بلاده، ساهم أكابر تجار الهند في تطهير سمعته، حيث عمدوا مقابل وعوده لهم بالتعجيل بتمرير مشاريعهم وتيسير أمورهم إلى تصويره على أنه المنقذ للبلاد. كرر مودي في فترة رئاسته للوزراء ما كان يفعله عندما كان الوزير الأول في ولاية غوجرات ولكن على نطاق أكبر وأوسع. وبدلاً من التنمية لا يوجد سوى سراب التنمية، ولا وجود في أرض الواقع لما تحدث عنه مراراً وتكراً في خطاباته من مدن ذكية. إن الرجل الذي أوهم المصوتين الشباب في عام 2014 بالوعد بإيجاد عشرة ملايين وظيفة هو نفسه اليوم الذي تشهد البلاد في عهده أسوأ أزمة بطالة منذ خمسة وأربعين عاماً. كما تم في عهده تقويض المؤسسات المستقلة في البلاد من الإعلام إلى القضاء. تعاني الهند الآن من تخمة من الشباب العاطل عن العمل، والذين يعيشون في حالة من القلق الدائم، كما تعاني من جهاز دولة يكاد ينفجر من الداخل تحت وطأة العبء السلطوي لرئيس الوزراء وجهاز قضاء جبان يرفض التحرك للجمه.
ومع ذلك، إذا كان مودي اليوم هو أكثر الزعماء شعبية في الهند، فما ذلك إلا لأنه أشعل الغضب الهندوسي وحوله إلى سلاح. لك أن تلقي نظرة على الماضي، للحظة، لترى الأمور من وجهة نظر سياسية جديدة باتت مستقرة في وعي الهندوس. فهم الذين طالما تعرضت بلادهم للغزو عبر القرون، وتعرض إرثهم الطقوسي للمسح بشكل ممنهج، وتعرضت جغرافيتهم المقدسة في نهاية المطاف للبتر والتمزيق تلبية لرغبات القوميين المسلمين فنشأت باكستان، تلك الدولة التي يعيش فيها الهندوس مثلهم مثل غيرهم من الأقليات كمواطنين من الدرجة الثانية ويُكرهون من حين لآخر على اعتناق الإسلام. لا يمكن تجاهل أو استبعاد هذه التظلمات أو التقليل من أهميتها كما يفعل أولئك الذين ينفون باسم العلم ما يحمله أي شعب من ذاكرة وتجربة تاريخية. يتطلب التاريخ حلاً، ولكن لا يجوز بحال أن يأتي ذلك الحل من خلال الاقتتال في الشوارع، وإن الجرح الذي يتوق إلى سفك دم مواطنيه لكي يبرأ فهو بحاجة إلى الكي وليس إلى التمريض. لا يمكن للهند أن تبقى على قيد الحياة إذا ما انكفأت لتصبح منصة لندب الذات الهندوسية كل حين لدرجة الجنوح نحو القتل.
كانت الهند بطبيعة الحال قد تعرضت في تاريخها لاقتتال داخلي سفكت فيه الكثير من الدماء، ولعل من ذلك ما جرى طوال الثمانينيات عندما تعاملت الحكومة الهندية العلمانية بقيادة حزب المؤتمر مع السيخ في البنجاب بوحشية شديدة. واليوم، ها هي ولاية البنجاب يحكمها حزب المؤتمر بزعامة وزير أول من السيخ. ولذلك، تملك الهند القدرة على التعافي مما هي فيه. إلا أن هذه الملكة لا تعني بحال، كما يظن البعض خطأ، أن لديها قدرة لا نهائية على تحمل الفظائع. كما أن المسلمين ليسوا مثل السيخ الذين لا يشكلون سوى اثنين بالمائة من سكان الهند، بل يعيش في الهند اليوم ما لا يقل عن مائتي مليون مسلم
خليك معنا