لا الاستهداف ولا استزراع الكيان الصهيوني ولا التجزئة بالأمور الجديدة على الوطن العربي، بل الجديد، وغير المنقطع عنها ، بل وليدها الطبيعي هو تحطيم الوعي العروبي ومحاولة اجتثاثه. مهدت لهذا ثلاث مقدمات خطرة: مواقف تاريخية مضادة للعروبة (موقف الغرب الرأسمالي ، وموقف الشيوعية التحريفية بمن فيها العربية، وموقف جماعة الإخوان المسلمين). هذه المواقف لم تتغير بغض النظر علت أو هبطت في الخطاب والفعل.
تمأسس الدولة القطرية كعدو للدولة القومية ووصول خطابها إلى الحديث عن “كل قطر عربي أمة وهوية خاصة” ناهيك عن أن كل نظام قطري كان ولم يتوقف عن شن حرب أهلية ضد الشعب في القطر نفسه. إضافة إلى وجود حبل سُريٍّ بين القطريات العربية والكيان الصهيوني وطبعا الإمبريالية. مصير ثلاثي واحد. انظروا لكيانات الخليج ونظام مصر والأردن والكيان الصهيوني الإشكنازي. وقمة الخطر لكل ما سبق وصوله حد تشغيل علني لأقطار عربية لضرب واحتلال قطر عربي آخر وكان التأسيس العملي له ما حصل ضد العراق 1991. هذه الجريمة هي التي أسست لاستسهال قيام نظام حكم عربي علانية بممارسة ودعم الإرهاب والاحتلال إن أمكن قطر عربي لآخر تحت حجج وتبريرات زائفة عديدة. أي سطوع أنظمة بالعمالة ضد العروبة بلا مواربة. وفي هذا بالطبع كان للطابور السادس الثقافي دوره، وها هو يتسع.
من بين كوارث هذا التوجه كان الربيع العربي/ربيع الريع، والذي من نتائجه قبول العرب بمختلف أنواع الاحتلالات مما جعل الاحتلال الصهيوني لفلسطين مجرد أمر عادي، لا يختلف عن قصف قطر والإمارات ضد ليبيا القذافي. وفي هذا تحول الاعتراف بالكيان والتطبيع إلى براءة اختراع (سبق إلى ذلك آل سعود وآل رشيد ولحق بهم التحريفيون حتى اليوم، فالكمبرادور). أمّا التبعية لأمريكا فغدت الفريضة السادسة لدى أنظمة وقوى الدين السياسي.
وفي عين هذه الورطة/ات لم تضيِّع الثورة المضادة لحظة واحدة في الشغل على التحطيم النفسي والثقافي للمواطن العربي بهدف أن ينتهي إلى فردانية مهولة، بمعنى كل فرد من 400 مليون هو ذرة تدور في مدارها فقط وتكنُّ عداء لكل الذرات الأخرى بل وتشتبك معها. وهذا ما شكل أساس موات الشارع العربي الذي نراه اليوم عياناً. لعل التحول الذي أفرزه “الربيع العربي” أن غدت الخيانة عقيدة ودينا ويغدو الرد بالسيف وﻻ غيره. لذا اكرر إنْ لم تعرف عدوك فأنت عدوي.
ترتب على هذا “الربيع” انتصار حقيقي للثورة المضادة تجسد في: صعود علني لأنظمة التبعية حيث قدمت لأمريكا ما أسميته جيش أوباما/أمريكا الثالث (عرب مؤدلجين بالدين السياسي، وحاقدين على العروبة ومسلحين ومدربين وممولين). تحول الموقف العربي من القضية الفلسطينية من وجوب التحرير إلى وجوب التصفية وبتواطؤ معظم القوى الفلسطينية. ويتم تبرير هذا أكثر اليوم تذرُّعاً بانقسام فتح وحماس كما لو كانتا هما الشعب وهما كابوساً. ويردد هذا التذرع انتهازيون تاريخيون من الفلسطينيين.
هذا رغم أن القاعدة فيما يخص فلسطين هي: أن القضية والاستهداف لفلسطين وكل الوطن العربي، وعلى الأنظمة العربية إمّا أن تعمل للتحرير أو تنزوي. أمّا أنْ يقوم أي فلسطيني بالتعسكر مع هذا المعسكر العربي التابع أوْ ذاك، فهو إنمّا يساهم بوعي وقصد في تأبين الوطن. إنّ على الفلسطيني الحقيقي، وخاصة مع تراكم “اسطبلات أوجياس” في التطبيع والاعتراف واستدخال الهزيمة أن يتجنب كل هؤلاء وأن: إمّا ينحاز لمعسكر المقاومة والممانعة، أو ينزوي كما قال الشاعر: “تنحّيْ واجلسي هنا بعيداً….أراح الله منك العالمينا”
في هذا المناخ أيضًا، تفاقم وباء الموجة القومية الثالثة في الوطن العربي متمظهراً في الاستدوال الطائفي والقبائلي، وهي ظواهر لا تعيش للحظة دون الاعتماد على الأجنبي، بمعنى أنها تمظهرات عميلة بالضرورة والفطرة والقطع ولا تبالي لفرط ما بها من عمى. هي ظواهر تقودها قيادات كمبرادورية هشة مركبة على شارع من الجهل والانتفاع مما يجعل الاستتباع أمراً بهيجا ومبهجاً. وفي هذا المناخ وجدت أنظمة وقوى الدين السياسي، أي الكيانات النفطية التابعة بالمطلق والملكيات الأكثر تبعية لأنها ليست ريعية، فرصتها للفتك بجسد العروبة. وليس ما حصل ويحصل ضد العراق وليبيا وسوريا واليمن هو نهاية هذه الهجمة.
ولم يكن لهذه الحالة ضد الجمهوريات وخاصة جيوشها أن تظهر وتُعلن عن نفسها وبوقاحة تخلف لا نظير له لولا أنها سُبقت بانهيار القوى التي كانت تنادي وتنتمي إلى السرديات الكبرى أي القوى القومية واليسارية العربية من جهة، والأنظمة قومية الاتجاه التي كانت تعتمد لبقائها على قوى الأمن الداخلي وحماية الاتحاد السوفييتي، وكانت تمالئ الغرب هنا أو هناك لأجل بقائها، وما أن سقط الاتحاد السوفييتي حتى حز الغرب الرأسمالي إعتاقها.
وكأنّ الدوس على أعناق ذوي العباءات قد آن أوانه بعد تدمير الجمهوريات. ذلك أن عدو العروبة هو حتى ضد تابعيه لأنه يريد وطنا كصحراء سياسة وبركت تجريف. لذا كانت جولة ترامب/و الأتاوية وصراع الجواري الخليجية بعد أن ضاجعها لتحمل منه سفاح نقيضا لبعضها البعض. وأمريكا الآن تقول قولا مُرضياً للطرفين لكنه تطمين طبيب السموم لمرضاه. فما يهم أمريكا هو أن تزيد الأتاوات العلنية، وبدل التقشيط والجباية وصلت إلى التحويل الطوعي المذل لما بأيدي هؤلاء ليست فقط الصناديق السيادية بل حتى السيولة المتوفرة بالأيدي والمصارف.
لم يحصل في تاريخ نظريات الاقتصاد السياسي مثل هذا الطرد المحلي للفائض مجانا إلى عدو الشعب. هذا ليس تبادل لا متكافئ، وليس تجارة، وليس نهباً بالقوة، وليس مضاربة خاسرة! وهكذا، تشهد الأيام الجارية، تخلصا مثيراً للدهشة بتناقضه: تخلص عربي رسمي وفلسطيني من فلسطين لصالح الكيان الصهيوني، تخلص العدو الأمريكي الأوروبي من داعش لتوليد غيره، وتخلص كيانات النفط من ثروتها إلى حد التعري. كيف كل هذا المشهد السوريالي معاً؟
لذا، من الخطورة بمكان ما سيأتي، سواء بدائل داعش، ونحر أية مقاومة وخاصة فلسطينية، واحتراب جواري الخليج. هل يمكن تلخيص المشهد إذن في: بعد مشروع الوحدة صار كل قطر قلق على وحدته، هل سنشهد تمفصلات كيانية أميبية في كل قطر؟ ومن سيظهر على السطح غير قوى الدين السياسي لكن على نطاقات صغيرة طائفية متداخلة مع قبائلية محتربة؟ ومن سيقود المرحلة غير الكيان الصهيوني. وهذا السؤال برسم معسكر المقاومة ليعرف أن الآتي اشد وممتد. وأخيرًا قد تكون المعركة المقبلة هي تحرير الخليج من أنظمته دحضاً لقيام تلك الأنظمة بتدمير الحواضر والجيوش العربية الجمهورية وصولا إلى واقع عروبي جديد.