الصباح اليمني_مساحة حرة
لقد بات المشهد واضحًا وجليًّا، ليس أمام المشاهد المهتم فقط، وإنما عند العوام أَيْـضاً. لم يعد لبريق فاترينة الديمقراطية الأمريكية لمعان، فقد كُسرَ زُجاجها الشفاف الذي ظلوا يتغنون به منذ التأسيس للولايات المتحدة الأمريكية، حتى اليوم، والتي كان لها هالة التجربة الفريدة في العالم، لكن التأخير الذي اعترى صدور نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، غيّر النظرة لهذه الحقيقة الزائفة، وولد شعور الخيبة والإحباط عند المعجبين بزيف بريقها، وكشف عن الخفايا التي ظلت خفية ومخبأة لسنوات طوال في دهاليز الصهيونية العالمية.
لأن الانتخابات، هذه المرة، أظهرت المستورَ، وفضحت المشهد؛ لأَنَّه اختلف تماماً وجذرياً عمّا كان عليه في الانتخابات السابقة، فقد كان يطرح سؤالٌ رئيسي وأَسَاسي باستمرار: من الذي سيتقلد عرش أمريكا؟ مع ما يحمله السؤال من أبعاد مرعبة، وتبعات ثقيلة على شكل الحياة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وعلى أي شعب سيقع اختيار الحرب، إذ إن لكل رئيس من رؤساء أمريكا حربه الخَاصَّة التي من خلالها يمارس غطرسته وهمجيته تحت أي مبرّر أَو أي مسمى ومسوغ كـ”مكافحات المد الشيوعي أَو الإرهاب” أَو غيرها من المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
إلاّ أن هذا السؤال لم يعد مجدياُ، وليس لديه أية دلالة؛ لأَنَّ ما حدث أحدَثَ تغييراً جوهرياً في صلب السياسة الأمريكية، حتى أصبح السؤال تساءلاً، يصبّ في مصير شعوب أمريكا ومستقبلها، بعد أن أثبت تفاعل الشارع الأمريكي، وحضوره في مشاركته في الانتخابات من خلال إقباله الكبير، أن هناك شرخاً وانقساماً وسط المجتمع الأمريكي على كلتا الضفتين، وليس دليل تماسك وانسجام مجتمعي، ووحدة وطنية فيها.
رغم أن النتائج تتوج بايدن رئيساً على الشعب الأمريكي، إلا أن الادِّعاءات القانونية التي قدمها ترامب، اعتراضاً على تلك النتائج، تقول إنه يرفض تسليم مقاليد السلطة، وترك البيت الأبيض، لا سِـيَّـما أنه ليس بمقدور أحد أن يتوقع ما هي الانعكاسات في الشارع الأمريكي، في ظل جنون ترامب، وأي مستقبل ينتظر أمريكا نفسها أَو ينتظر النظام الغربي بأكمله، بخَاصَّة وأن ترامب معروف بتهوره الممقوت وجنونه الذي يؤدي إلى حماقات وكوارث لم تكن في الحسبان، وغير مبالٍ في مستقبل أمته هذه المرة، وَإذَا ما ترفّعنا عن تعقيدات الأحداث التي تشغل المشهد اليوم، نجد أنّ ما وصل إليه الوضع في الولايات المتحدة من انقسام وفرقة، هو نتاج طبيعي لشيئين: الأول يوضح مدى إيمان البعض بأن أمريكا شيء استثنائي، باعتقادهم أنها هي التي تفردت بتقدّم النموذج الفريد، والذي لا يرقى إليه أي نموذجٍ في العالم؛ وهو الذي أنشأ وأسس العنصرية داخل الولايات المتحدة وخارجها أَيْـضاً، في تعاملها مع القضايا الدولية.
والثاني وُلد من إحساس أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت مرتكزاً رئيسياً في صياغة النظام الدولي والشرعة الدولية من بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية نظام القطب الواحد، بدأ بالتهدم والترنح الذي ينذر بسقوط ما بنته من علاقات مع دول أُخرى، بتخلفها عما كانت قد صوتت عليه من القرارات بالموافقة، وبخَاصَّة بما يتعلق بقرارات القدس، والجولان، كما أننا لا ننسى أنها نكصت عن عشرات العهود مع كُـلّ من تحالف معها، بعد أن تأخذ مصالحها، مثل حرب العراق مع إيران حينما دفعت بصدام إلى قتال جاره الإمام الخميني، لأجل لا تقوى أي من القوتين آنذاك، ومما أَدَّى إلى شرخ كبير بين البلدين، وبعدها قضت على صدام ونظامه بكل دم بارد، وصورت بعد ذلك بأن النظام الإيراني الغول الذي سيلتهم المنطقة، حتى تتوغل هي بالمنطقة، وتحتل الشعوب بذريعة حمايتها من الخطر الإيراني، أضف إلى ذلك انسحابها من الاتّفاق النووي الإيراني واتّفاقية المناخ وعشرات الاتّفاقيات العسكرية والمدنية مع روسيا والصين وأُورُوبا وأمريكا الجنوبية، كشواهد حية، وكل هذا هدمته نشوة الشعور بالاستثنائية والمتجذر في أعماقها السياسية، بل ولد فيها نوعاً من الوهم الكاذب بأنها المحصّنة من أي هجوم مضاد ينجم عن تصرفاتها، وأنها قادرة على أن تؤذي العالم برمته، ولكن ليس بمقدور أحد أن يؤذيَها مهما امتلك من القوة أَو الذكاء، أي أنها بذلك وضعت نفسها وَمعيار نظامها ما فوق الطبيعي، وظناً منها أن مصالحها قد تتحقّق إذَا اصطنعت الصراع واختلقته مع العالم أجمع لكي تقومَ بتوظيفه وفق استراتيجيتها المدمّـرة، وهنا مكمن الخطأ القاتل.. حينما يبدأ الشعور بالعظمة يطغى ويلغي الشعور أنه مهما بلغت أمريكا أَو غيرها، من عوامل القوى العسكرية والمالية، التي تمكّنها من السيطرة والاستحواذ ومد نفوذها، على شعور انها لن تنجو من النهاية الحتمية التي تنتظرها كما انتظرت سابقتها، وأن مصيرها إلى زوال في لحظة زهوٍ لم تكن تتوقعها.
وها هي تمر بلحظة الألم الشديد كحيوان مفترس جريح، تحاول عض العالم بأسره بفتحها النار على الأسرة الإنسانية جمعاء، بإنشائها
الجماعات الإرهابية كذريعة لتغزو بها الشعوب وتدمّـرها وتنهب ثرواتها، كما فعلت في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من دمار.
اليوم العراق وسوريا واليمن ترزح تحت عدوان غاشم ونهب لثرواتها التي من المفترض أن تكون لأبناء شعوب هذه الدول؛ لأَنَّها من حقوقهم، ولكن هذه السياسة فضحت وعرت أمريكا، وأظهرتها ومن معها بأنهم ليسوا سوى مجرمين دوليين ونهاب عالميين لحقوق الآخرين، وقتلة أطفال.
خلاصة الكلام:
لم يعد لدى أمريكا من أدوات القوة الأخلاقية والقيمية، ما تستطيع أن تؤثر به على نظم العالم التي وعت وفهمت وأدركت الحقيقة التي كانت تتشدق بها. فهي قد هدمت كُـلّ معايير الإنسانية، بما في ذلك داخلها نفسها، ولا تفسير آخر إلا ما حدث في الانتخابات، وهو جزءٌ بسيط من حجم السياسات العبثية التي لا تحترم مواثيق، ولا تلتزم بعهود. كما أنها إنذار خطر للشعوب الأمريكية نفسها التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني والشركات المتعددة الجنسية، وما إجراء الانتخابات خلال العقود الماضية إلا لعبة يديرها حكماء الظل أَو بما يسمى حراس المعبد الماسوني، وليس الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما كان يظهر سابقًا.