يَحارُ المرءُ من أين يبدأ في قراءة الأحوال العربية..!
ولعلّ الحيرة لا تكمن في تعدد الأزمات والمشكلات العربية المتفاقمة، وأولوية وضرورة معالجتها، فحسب، بل في وصولها إلى مستويات كارثية غير مسبوقة، تتجاوز في خطورتها التهديدات التقليدية للأمنين الوطني والقومي العربيين. بل في وصول تلك الكوارث إلى مرحلة تهديد الوجود العربي برمّته، ككيانات ودول ذات سيادة تقليدية، كما كان معروفا طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد لا أبالغ إذا قلت أننا على حافة التبدد والتلاشي..!؟
إن لم يقيّض الله لهذه الأمة شيئاً من حضور حكمة بعض أبنائها وعقولهم ورؤاهم، لتدارك ما يمكن تداركه، قبل أن يسبقَ سيفُ التلاشي عَذلَ التداركِ ورأبِ الصدع والإصلاح.
فليسَ من الطبيعي، ولا من المقبول، أن تجتمع كل تلك الأزمات والمحن في لحظة عربية واحدة، ومن دون أن تجد محاولة قومية جادّة لوقف هذا الانهيار غير المسبوق، سواء في العلاقات البينية العربية، أو في أسباب تفاقم كل كارثة على حدة.
فأي عجزٍ وانهيار ذاتي هذا الذي تمارسه المؤسسات الإقليمية العربية الجامعة للعرب طوال العقود الماضية..!؟ فأين جامعة الدول العربية ومؤسساتها العديدة..؟ بل أين مجلس التعاون العربي الخليجي ومؤسساته..؟ بل أين رجالات الأمة والدولة والحكمة، وخارج كل المؤسسات الحكومية والرسمية..؟ أما من صوت عاقلٍ يصرخ في بريّة عرب هذا الزمان..؟ أما من محاولة جادة ويتيمة لوقف عجلة هذه الانهيارات..؟
أيّة أجيال من الحكومات والحكامات تحكم أزماننا..؟!
لا رغبة لديّ في تسمية أحد من سياسيي ومفكري وحكماء هذه الأمة، وهم كثر، الذين يمكن لهم، إذا تضافرت جهود البعض منهم، أن يقوا هذه الأمة شرّ توالي انهياراتها وكوارث استمرار التدخل الإقليمي والدوليّ في ما تبقّى من وجودها.
بائسٌ هذا الوضع الذي وصلنا إليه في التعاطي مع تفاصيل الأزمة العربية الخليجية وما يرافقها من تداعيات. ومحزن أن تنسدّ كل دروب الحلول العربية والتوفيق بين الإخوة والأشقاء، ولا يتبقّى لنا سوى الشكوى والتشاكي على أبواب واشنطن.
ومريبٌ هذا الذي يحدث ويسرّب حول قضية الأمة المركزية، القضية الفلسطينية، وما يتّصل بتلك التسريبات من مشاريع أقلّ ما يقال فيها أنّها كارثية وجنونية. بل وأكثر من مريب وكارثيّ أن تصل السياسات العربية الراهنة، وتسمح، بأن تُعالَج محنة غزة على هذا النحو الذي نسمعه، ووصولها إلى الحد الكارثي الذي نراه صباح مساء، ابتزازاً وتجويعاً وموتاً بطيئا من الجوع والأمراض ونقص العلاج..؟
ولا تقل معالجة الكارثة اليمنية والحرب فيها وعليها وتفشي وباء الكوليرا، عن ما قبلته سياساتنا العربية في التعاطي مع أحوال غزة..
أما محنة العراق المتواصلة، وكارثة سوريا التي أكلت أخضر الناس ويابسهم، بشراً وعمرانا ومقدّرات، وتفاقم الأوضاع في ليبيا والعجز عن إعادة بناء الدولة، بعد تدميرها، فهي عناوين لعجز الأمة منذ أكثر من سبعة أعوام عن إدراك مدى الهاويات التي أوصلتنا إليها مقادير إدارة الربيع العربي العتيد. ولعلّ من مِلْحِ الكلامِ التذكير بالتسريبات الجديدة عن محاولات التطبيع والاجتماعات العلنية بين إسرائيليين وليبيين رسميين في رودس، وقبل تكوّن الدولة في ليبيا، ومخاطر وصول إسرائيل إلى دول الشمال العربي الإفريقي.
أعرف أنّ هذه المقالة، ومهما حاولت، لن تُلمّ بغالبية الكوارث العربية، المتفجرة اليوم في وجوهنا جميعا، فهي أكثر اتساعاً من أن تحيط بها مقالة كهذه. وسأقفز عن الكثير منها هنا، ليس لأنها أقل أهمية، بل لأنّها متفرعة من كوارث رئيسية أخرى، ومن نافلة الكلام الإشارة إليها قبل معالجة وتسمية ما هو رئيسي من أزمات؛ كجمود الوضع الأمني والاجتماعي في سيناء ومصر، واحتقانه في البحرين، وتنامي سياسة المحاور والاستقطاب بين البلدان العربية، كسياسة في إدارة الأزمات، بعد أن غادرها العرب منذ نحو ثلاثة عقود، عشية انتهاء الحرب الباردة.
ناهيك عن الوضع الإستراتيجي الجديد الخطير ، الذي خلقه تبادل تبعية جزيرتي تيران وصنافير ، بين مصر والسعودية ، ما يجعل ممر تيران الاستراتيجي ممراً دولياً وليس محلياً مصرياً ، ما يمكنّ إسرائيل من صناعة ممرٍ بحري دولي مواز لقناة السويس ، وما يتصل بهذا من خسارات قومية ووطنية استراتيجية عربية .
لا تطمح هذه الكلمات إلى نَكءِ جراحِ أحد. ولا إلى الانحياز إلى ما هو كارثي في عالَم العرب اليوم، سياسةً وصراعات. كما أنّ صاحبها يدرك كلّ المعوقات والصعوبات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. غير أنّ ضميري ووجداني يمنعاني من الصمت أمامَ ما أرى وأسمع وأحسّ، وبعد أن أصبح الصمت العربيّ، حول قضايا بقائنا ووجودنا، عالياً في ضجيجه كالرعد..!؟
فيا ساسةَ الأمةِ، ويا مفكّريها، ويا حكمائها، ويا كلّ مَن هو معنيّ بمصير هذه الأمة، هذا نداءٌ لي ولَكم، لمحاولة وقف هذا الانهيار المريع، بجدٍ جماعيّ جاد.. مجرّد محاولة.
الّلهمّ فاشهد
في هذا السياق ، وبكل موضوعية ، أعتقد أن الشعوب العربية تنتظر بلهفة أن يتصدى زعيم عربي أو أكثر ، لهذا الحال بالمبادرة بوضع وثيقة مصالحة عربية تعتمد على حلول سياسية خلاقة تأخذ قدر الإمكان بالتجارب التي مرت على الأمة العربية والتغييرات التي حدثت في هذا العالم . وأعتقد جازماً أن الأردن وجلالة الملك عبد الله الثاني مؤهلان للقيام بهذه المبادرة ، النبيلة والملحّة في تاريخ العرب الحديث ، ليس بسبب رئاسة جلالة الملك الدورية والحديثة للقمة العربية فحسب ، بل لما يتمتع به الملك عبد الله الثاني من دينامية ومبادرة وحيوية ، إقليمياً ودولياً ، كرّسها خلال العقدين الماضيين ، ولما تميز به الأردن من إستقرار وتوازن ، والشعوب العربية تنتظر وتأمل ذلك بلهف شديد .