الصباح اليمني_مساحة حرة|
لو كانت الأمور كما يجب أن تكون لوجدنا جامعة الدول العربية تقوم بدور القائد الرائد لعملية التضامن والتعاطف مع لبنان في أخطر أزمة تمر به منذ الحرب الأهلية، والتي دفعت الرئيس الفرنسي إلى المبادرة بالسفر إلى بيروت، وكأنه ما زال يشعر بأن بلاد الأرز هي تحت رعايته، والأسوأ من ذلك أن يكون الأمر مجرد تعاطف مع رعاياه.
والواقع هو أن الجامعة لا تملك حق اتخاذ أي قرار بحكم تكوينها نفسه، وهذا في حدّ ذاته يُلغى أساسا الدور الذي أقيمت من أجله، أو قيل أنها أقيمت من اجله، وبالتالي فإنه يتطلب تغييرا جوهريا في مهمتها الأساسية، وهنا تبدو ضرورة تعديل ميثاقها ليكون أقرب إلى منطق الواقع الذي يرتفع فيه علم إسرائيل على بعد أمتار من مؤسسة كانت مهمتها هي محاربة إسرائيل.
باختصار شديد، جامعة الدول العربية مؤسسة انتهى دورها السياسي، ولا بد من بناء مؤسسة جديدة، كما تمت إقامة الأمم المتحدة مكان عصبة الأمم، والاتحاد الإفريقي مكان منظمة الوحدة الإفريقية (وبغض النظر عن الفروق في المهام والصلاحيات).
وكما سبق أن قلت، إذا صحّ بأن الرئيس أنور السادات كان قد اقترح أن يُحوّل مبنى الجامعة في القاهرة إلى فندق فإنني أقترح، تجسيدا للتغيير، أن يكون مكان المؤسسة الجديدة هو مدينة الإسكندرية، تماما كما أن نيويورك وليس واشنطون هي مقر الأمم المتحدة.
فليس سرّا أن الجامعة هي انعكاس فعلي للواقع العربي المشرذم والذي يكاد يبدو متعدد الولاءات، بحيث من الصعب أن نتحدث عن استقلال حقيقي للكثير من دوله.
ولعل أصدق تعبير فكاهيّ عن الوضع العربي ردّ فعل الرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة عندما تناول البعض أمامه يوما موضوع الوحدة العربية فقال : العريان والعريان لا يلتقيان إلا في الحمام.
ومع ذلك أجرؤ على القول بأن المؤسسة الجديدة، إذا حدث وأنشئت، يجب أن تجعل هدفها الأول تحقيق الوحدة العربية.
وقبل أن ينفجر قارئ ضاحكا أرجو أن أُمنح دقائق أشرح فيها وجهة نظري، والتي تتلخص في أن وحدة الموقف العربي هي أكثر من ضرورة في عالم أصبح قرية صغيرة وغابة كبيرة، لكن أسلوب تحقيق ذلك يجب أن يختلف تماما عن الأساليب التي ثبت فشلها، لكيلا أقول أنها كانت تخدم الهدف المضاد للهدف المعلن.
بوضوح أكثر، أذكر بأن نكبة الوطن العربي الحقيقية هي قيادات استعملت منطق “التوسع” السياسي والإيديولوجي بل والجغرافي للسيطرة على ما بين المحيط والخليج، وأحيانا لتبرير التحكم المطلق في البلد المعني، وقد يكون ذلك، عن عمدٍ أو عن جهل، لمصلحة مشتركة مع نفس القوى الدولية التي تدعي تلك القيادات أنها تحمي منها الأوطان.
هناك من يعتمد نظرية التوسع “القومي” لدولته القطرية، ويرى بلده، وهو في الواقع يرى نفسه، المؤهل الوحيد لقيادة قاطرة الشعوب.
وهناك من يعتمد نظرية التوسع “الديني” ويعطي لنفسه الحق، ليس فقط في منح صكوك التوبة والغفران، بل يستعمل ما وهبه الله له من خيرات لشراء الذمم وتلويث الضمائر وزرع الفرقة.
وهناك من يعتمد نظرية التوسع “التاريخي” انتحالا لحقوق تاريخية مزعومة تبرر التوسع “الجغرافي” الذي أسقط ألمانيا هتلر، وهو ما استدعى اللجوء إلى تحالفات زادت الطين بلة.
وهناك من يتصرف على أساس أن هناك دولا كبرى من حقها أن “تأمر”، وأخرى صغيرة من واجبها أن “تطيع”.
هذه هي المأساة فيما رأيت، وبالتالي فأي نقد لجامعة الدول العربية وأي تنديد بأدائها هو في حقيقة الأمر ضرب للبردعة، طبقا للتعبير الشعبي السائد.
وهنا يبدو من المنطقي اليوم أن تتوجه الجامعة الجديدة إلى مجال آخر، ويتم إعداد ميثاقها لكي تبتعد تماما عن المجال السياسي الذي لا يمكن أن يكون لها فيه الدور الذي يليق بمؤسسة تمثل الوطن العربي في عالم الوحوش الذرية.
ولقد تحدثت عن وحدة “الموقف” العربي لأن هذا هو ما نفتقده اليوم، ولسبب بالغ الوضوح، فنحن، أكاد أقول جميعا، نتلقى، منذ نعومة الأظفار، جرعات وجرعات من الشوفينية المحلية التي تحسن القيادات “طبخها” للسيطرة على جماهيرها، وهو ما تزايد في السنوات الأخيرة عندما سُخّرتْ وسائل الإعلام وتجمعات الأحزاب وغيرها للمناداة بالجزأرة والتونسة والسعودة والتمصير الخ، ورفع كثيرون شعار: “بلادي فوق الجميع”، ومنهم من كاد يقول القول بأن “مذهبي” أو “دشرتي” أو “قريتي” فوق الجميع، بما في ذلك القطر الوطني نفسه.
وليس عيبا أن نزرع في نفوس أبنائنا الاعتزاز بأوطانهم، لكن المبالغة التي عشناها بصور مختلفة وصلت بكثيرين في قطر معين إلى وضعية التعالي على الآخرين في أقطار أخرى، وهو ما ساهم في زيادة الحساسيات بين شعوب الوطن العربي، وأقول .. بين الشعوب.
هنا يبدو طريق الخلاص الذي سلكته دول مثل ماليزيا وتركيا، أي الدول الإسلامية غير العربية.
فقد أدركت القيادات الواعية هناك أن الوطنية هي تكامل البعد القومي مع الانتماء الديني، وهو على وجه التحديد ما تنكرت له جلّ قياداتنا، فأصبحت هناك توجهات قومية تتعالى على الانتماء الإسلامي أو تنفر من التعامل معه، وتوجهات إسلامية تدين كل فكر قومي وتراه تناقضا مع أحكام الدين الحنيف، وأصبح كل فريق يتفنن في استنساخ أو اختراع أو افتعال ما يُثبت أنه وحده المُحقّ.
ولو توقف المثقفون العرب عند دراسة التوجهات العقدية عند قسيس فرنسي مثل “لافيجري” الذي حاول تنصير الجزائر لأدركوا خطر التناقضات التي زرعها في صفوفنا من لا يريدون بنا خيرا، بحيث أصبح لدينا من يتصور أن اللائكية معناها اللادينية، جهلا أو تجاهلا أو استلابا.
ذلك أن العمل على بناء دولة قومية الانتماء لائكية التوجه هو خرافة لا يماثلها إلا المناداة بدولة دينية لم يعرفها تاريخ الإسلام، حيث لم يعتمد سيد المرسلين “مكة” كعاصمة له بل اختار المدينة، برغم حبه الشديد لمكة، والتي كان أصدق ما ورد بشأنه قوله تعالى: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (البقرة 144).
والذين يتغنون بلائكية بلد مثل فرنسا يتجاهلون أن هذا البلد لا يسمح لغير كاثوليكي برئاسة الجمهورية، ولم أقل غير مسيحي، وهو من يرفض الأرقام التي استحدثها غير فرنسيين (بلجيكا وسويسرا) مثل 70 (septante) و 80 (octante) ويصر على مواصلة استعمال (soixante dix) و (quatre-vingt) لأن عراقة اللغة الفرنسية بالنسبة لهم لا تكون إلا ما تعترف به باريس.
وهنا نكتشف أن علينا أن نبدأ العمل الجاد في أبسط صوره الممكنة، وهو إعادة النظر في مناهج التعليم العربي بدءا من رياض الأطفال، لنزرع في نفوس أبنائنا الشعور بالانتماء إلى وطن كبير واحد موحد اللغة والهدف والوسيلة، واحد العدوّ والمعاناة والتحديات، لا يتناقض الانتماء له مع الاعتزاز بالوطن الصغير، الذي يمكن أن يبدأ من القرية أو حتى البلدية.
وللتوضيح، أشير كمثال إلى أن مناهج التعليم الفرنسية هي نفسها في كل المدارس الفرنسية، سواء كانت في باريس أو داكار أو بيجين أو واغادوغو، حيث يُستعمل نفس الكتاب ونفس الصورة ونفس الأمثلة، وتكون النتيجة أن الخريجين يشكلون قوة ثقافية منسجمة، بغض النظر عن انتمائهم القطري، وبهذا أصبحت “الفرانكوفونية” قوة سياسية توازي قوة “الكومونولث” الاقتصادي.
هذا هو الدور الذي أراه للمؤسسة الجديدة، وهو يعني أن الإدارة الثقافية للجامعة العربية يجب أن تصبح هي نفسها “كلّ” الجامعة العربية، وتكون مهمتها تشكيل اللجان من مختلف الأقطار لإعداد البرامج التعليمية الموحدة التي يسير عليه كل تلميذ وكل طالب من المحيط إلى الخليج، وكنت أضل ..من المحيط إلى المحيط.
وأنا أعرف أن الكتاب الذي سيستقطب كل المشاكل هو كتاب التاريخ، وهذا يمكن أن يترك إعداده لجيل جديد أقل تعقيدا من جيلنا.
ببساطة، يجب أن تكون الجامعة الجديدة نظيرا لليونسكو، وبعد توحيد المناهج التعليمية نطلق النشاط إلى مجالات ثقافية أخرى تدعم التوجه العربي القومي، كمضاعفة الاهتمام بكل ما هو تاريخي وسواء تعلق الأمر بالآثار أو المتاحف أو الأغاني الشعبية وقبل ذلك بكتابة التاريخ العريق للأمة بأسرها، وهكذا يحس الشاب بأنه ينتمي إلى وطن عريق من واجبه، بل من حقه أن يعتز به ويعكف على تنميته والدفاع عنه.
ويمكن أن يُعهد للمؤسسة الجديد بدور اقتصادي يبدأ بتحركات بسيطة لا تكلف الكثير وتهدف إلى تحقيق أكبر قدر من التكامل الاقتصادي الذي تمثله طائرات “الإيربوس”، حيث يُصنع المحرك في بريطانيا وكابينة القيادة في ألمانيا والأجنحة في فرنسا، ويتم تجميع الأجزاء في تولوز.
وهنا يمكن أن نعمل على توحيد اسم العملة العربية، فنتخلص من التسميات غير العربية مثل الريال والليرة والجنيه إلى الدينار والدرهم.
وقد يقول البعض أن هذا أمر مستحيل لاختلاف قيمة العملات، وهو ما يمكن الردّ عليه بأن قيمة الدولار الأمريكي تختلف عن قيمة الدولار المكسيكي أو الأسترالي، ولكن التسمية واحدة.
ويكون توحيد الأسماء خطوة أولى نحو هدف تحقق به العملة العربية ما حققه “الأورو”.
وهكذا يكون لليونسكو العربية دور اقتصادي يرتفع بالمؤسسة إلى مستوى قد يؤهلها يوما لكي تكون فعلا جامعة تجمع.
وستتمكن مؤسسة تجمع أهم العقول العربية وأبرع الكفاءات العربية من القيام بدور الرائد المؤهل لقيادة الأمة وبدورٍ سياسي دولي يعبر عن الوطن العربي بجدارة، لأن من تضمهم يمثلون الوطن العربي بجدارة.
وهذا كله لا يمنع، بل قد يبرر إنشاء جامعة للشعوب العربية، تتكامل مع الجامعة المتجددة، هذا بالطبع …إذا صدقت النوايا.
وأفلح من صدق.
*مفكر ووزير إعلام جزائري سابق
خليك معنا