حتى الذين كانوا صغاراً تحت سن الرابعة يتذكرون الآن جيداً مروحيات الهيلوكبتر التي كانت في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، تحلق فوق رؤوسهم وتفرغ ما بداخلها من أكياس نايلون شفافة ومليئة بقطع البسكويت والحلوى.
أتذكر ذلك بما يشبه الخيال، ولابد أن تلك الحركة الدافئة والسهلة التي أبدعتها مروحيات الحمدي لم يكن الهدف منها إسعاد الأطفال فحسب، بل ولقد علمتهُم كيف يرفعون رؤوسهم إلى السماء.
الآن وبعد 40 عاماً من اغتيال الحمدي نسى الأطفال والكبار – معاً – رؤوسهم في الأرض، ولم تعد المروحيات حنونة قدر ما هيَ نذير شؤم و«نخيط»، خصوصاً تلك التي تحلق في سماء صعدة لتفرغ ما في بطنها من بارود!
المغترب اليمني، هو الآخر، كان يعمل في بلدان الخليج وهو رافعاً رأسه، فخوراً ببلده، ولم تكن أية دورية نزقة على الحدود لتجرؤ على أن تشعل مجرد عود كبريت لترهيب اليمنيين، فما بالكم حين يتم إحراقهم الآن كما لو أنهم بضاعة تالفة، تماماً كذاك الذي حدث قبل سنوات فيما عرف بمأساة حريق خميس مشيط.
بعيداً عن الاقتصاد الذي ارتفعت مؤشراته خلال 3 سنوات ونيف فقط، الأشجار أيضاً رفعت رؤوسها إذ كان الحمدي رئيساً للبلد وللجنة التشجير. ليس ذلك فحسب، العمال والفلاحون أيضاً رفعوا رؤوسهم وازدحمت آنذاك المكتبة الموسيقية اليمنية بعديد أغانٍ تحث على الزراعة والإنتاج والعمل.
الفنون والآداب والسينما والمراكز الثقافية وكوكبة من الأسماء التي ذاع صيتها فنياً وأدبياً وسياسياً كانت في الغالب نتاج 40 شهراً حكم فيها «إبراهيم» شمال اليمن، وفجأة كـ«فص ملح وذاب» توقف إنتاج كل شيءٍ جميل، المسرح وأغاني الإذاعة والتلفاز كلها الآن مجرد جوقة لتمجيد زعماء عصابات فقط.
لا أحد منح «الهامشيين» – طبقاً لتعبير الزميل سامي غالب – فرصة للصعود كما فعل إبراهيم الحمدي الذي استبدل مراكز النفوذ بكفاءات شابة ومنح اليمنيين امتياز المواطنة المتساوية، فاستحق الحب والخلود في ذاكرة الجميع.
لم أعش فترته، كنت خلال الفترة من 13 يونيو 1974 وحتى 11 أكتوبر1977 لم أزل طفلاً في الثالثة من عمري، وأتذكر الآن صورة لأختي التي تصغرني بـ 3 سنوات وهي ترتدي بزة كاكية اللون وكفها مفتوح لصق جبهتها تؤدي التحية العسكرية وعلى رأسها قبعة كتلك التي لبسها الحمدي، في آخر صورة التقطت له أثناء زيارته لمصر عام 1976.
جيل من الأطفال الذين لم يعايشوا فترة الحمدي التقط لهم أهاليهم لاحقاً ـ بعد سنوات من اغتياله ـ صوراً وهم يؤدون مثل تلك التحية العسكرية البهية، كما لو أنها آخر ذكرى حملها الآباء لرئيسٍ صنع للبزة العسكرية هيبتها وكارزميتها الأنيقة. وكذكرى لـ40 شهراً فقط مرت، كما لو أنها شهر عسل، عاشها إنسان شمال اليمن لصق زعيمٍ حليق الشارب ونزيه اليد، كانت كرامة إنسان اليمن أهم أولوياته.
بالتأكيد كل الذين خذلهم القانون الآن وحيطتهم الانتماءات الضيقة وهمشتهم المصالح الأسرية وأهانتهم بُلدان الاغتراب وتنصعتهم بنادق زعماء القبيلة يحلمون بفرصة أخرى كتلك التي جاءت بإبراهيم الحمدي إلى سدة الحكم، ليستعيدوا معه «دولة المواطنين» المنهوبة. لا سيما وأن أولئك الذين اغتالوا «إبراهيم» – كما اعتاد عامة الناس مناداته غير مسبوق بأي لقب – لم ينجحوا في اختطاف السلطة فحسب، بل نجحوا أيضاً في جعل إنسان اليمن هامشياً وتعوزه جُرأة رفع رأسه من جديد.