الصباح اليمني_مساحة حرة
عاجلاً أم آجلاً، ستنتهي هذه الحرب كمحطة فارقة في مشسار صراعنا مع العدو الإسرائيلي. ولكن مرحلة ما بعد الحرب لن تقلّ أهمية عن الحرب ذاتها. ليس لأنها محمّلةٌ برواسب زمن الحرب وما شابه، بل لأن الوضوح بات أقسى وأنصع. وحينما يكون وضوح الإنسان في مواقفه تجاه بلده وناسه ودماه على هذه الدرجة من الشدّة، فإنّ التعامل معه وتقييمه يكونان على قدر من الأهمية والضرورة. فالحرب ليست دماراً وقتلاً فقط، هي كشط الغبش عن الحقيقي والمزيّف، هي عزل كلّ ما ليس ضروريّاً وخطأ لتصل إلى الجوهر والحقيقة. الأكيد أنّ حال القوى السياسية في لبنان واضحٌ حتّى قبل الحرب الدائرة، لأنّها -كرونولوجياً- حسب التسلسل التاريخي للوضع الانقسامي فيه، ليست إلّا تعبيرات عن حالة السياسة اللبنانية منذ الحرب الأهلية عام 1975 وصولاً لحرب تموز 2006 وما تلاها. ولكن لهذه الحرب العدوانية الآن، مقدرة على التعبير أكثر عن حجم الانقسام ومآلاته، إذ أفرزت مفاهيمَ جديدةً مختزلة من حيث التعبير المزيّف عن الوطنية والثقافة والسيادة والقيم والمشتركات المفترضة بين «المجتمعات اللبنانية».
لذا، إنّ مرحلة ما بعد الحرب في لبنان، تعني أنّ عدم التئام الشرخ العمودي في الاجتماع السياسي وضروب التنافر في التعاطي مع المسائل السياسية الشاملة بين قوى المقاومة، وبين القوى السياسية الأخرى في لبنان، أصبحت أكثر تباعداً من ناحية فهم فلسفة السياسة والدولة وأطوارهما. فبدل أنْ تنحاز تلك القوى المغرِضة أثناء الحرب، للحرب ذاتها كنوع من الدفاع عن السيادة ووجودها وكضرورة وطنية تتطلّبها الأحداث والموضوعية التاريخية، اتخذت مساراً نقيضاً تماماً، فكانت شريكاً في الحرب ضدّ من يدافع عن سيادة البلاد بشكلٍ حقيقيّ وبصورة جليّة. ورغم ذلك، فإنّ المعيار السياسي المتّزن عند قوى المقاومة حاضرٌ وناشطٌ حتّى عندما يختلط في أسوأ أحوال الاضطراب. يمكن ترجمة ذلك بالمعادلة التقليدية هذه: إنّ القادر على الحرب الأهلية لا يريدها، فيما غير القادرين عليها يستميتون لها، ذلك لأنّ عقول سيّئي الظنّ -ومن النادر أن تكون عقولهم نقدية- تحسب أنّ قوى المقاومة تبذر عن عمد بذورَ حروبٍ قادمة. وفي هذا الظنّ غلوٌّ في تبرئة العدو وفي إعلاء منزلة ثقافة الإلغاء وثنائية «نحن وهُم» أو الذات والآخر. ولكن من حيث يدرون ولا يدرون فإنّ «الإلغائية» تلك، هي التي تبذر بذور أي حرب قادمة.
إنّ سردية «لا يشبهوننا» تعني أنّ التنافرات السالفة، هي حتمية وعميقة، لأنّ الذين يتشدّقون بأنّنا لا نشبههم -فنّانون، وسياسيون، ورجال دين، وأنصار الثقافة وعشّاق الحياد- يتذرّعون بأنّ قيمهم في حبّ الحياة أرقى، ولا تتّسق مع قيم من يطلب الموت طلباً شديداً، وينحون منحى الاستعلاء على من سواهم في أنّهم يعتبرون أنّ رؤيتهم للدولة ولتغيير المجتمع إنْ لم تكن تبعاً لمثالهم الأعلى كنموذج للحكم، فإنّنا سنظلّ رهن السلاح غير الشرعي، أو فلنرتَحْ ونُرِح في التقسيم والفدرلة. فماذا يعني إذاً، بعد كل ذلك، دخولك في الحرب ضدّ بلدك والإصرار أنّ الحرب لن تأتي إليك سوى بغلق الباب وليس هناك جدار؟ وكيف يُفهم الإلغاء والتقسيم بغير أنّك تتجه شطر «الفاشية» بالمعنى الصحيح للكلمة، أي إنّك تريد فيما أنت أقلّية، الاستيلاء على السلطة وخلخلة التوازن بالعنف السياسي. فالمطالبة بالفدرلة، والاحتماء بقوقعة الثقافة الضيّقة والمُطيّفة، أو -بشكل دقيق- التذمّر السياسي إمّا من «القمع» وإمّا من اتّصاف «المجتمع الكبير» بأنّه أصبح «أحادي البُعد»، ما هو في نهاية المطاف إلّا ذريعة تريد أنْ تفرض على الواقع السياسي قيمَها ومن جانب واحد حصراً وتخلق دولة تكون كلّها على شكل إمّا عشيرة أرستقراطية، أو عشيرة أسر طائفية.
لابن المقفّع حكمة شيّقة وصالحة لفهم ما نتحدّث عنه: «إنّ الماء إذا أُطيل إسخانُه، فلن يمنعَه ذلك من إطفاء النار إذا صُبَّ عليها». يمكن للملتقّي تأويلها كيفما يشاء سياقه. ولكنّها هنا تفُسَّر بمنحيين، سلبي من ناحية وإيجابي من الناحية الأخرى. تأويلها الإيجابي تجسّده قوى المقاومة حصراً، إذ مهما تم التضييق عليها والاستهانة بدماء أبنائها وشهدائها، أي مهما عمد البعض إلى «تسخين» الفتن ضدّها، فسوف تبقى على قدْرٍ كبير من الاتزان في الحفاظ على توازنٍ ما، يجعل من السلم الأهلي ممكناً دوماً وستبقى مدركةً لضرورة إطفاء النار بين فئات المجتمع السياسي اللبناني تجنّباً لأيّ إمكانية تحقّق رغبات الطرف الذي «يُغطّي نفسه برداء الغرب ولا يدفأ». في المقابل، فإنّ بُعدها السلبي ترجمته حاصلة يومياً؛ إنّ من يشعل النار، فهو لا يريد لها ماء ولا انطفاء. إنّ الإنحياز للحرب ضدّ المقاومة، والسعي إلى حرب أهلية مستعجلة، هو كمن يريد إشعال النار لتسخين الماء عليها إلى درجة الغليان الكامل.
«يلي بتقاتل فينا هي الروح»
يمكن للمرء أنْ يفتّش في المعارف كلّها بحثاً عن إجابات عن سؤال ما هي «الروح». لكن حينما تنشب الحرب، فإنّ كلّ الأشياء والظواهر يُمكن أن يُعاد تعريفها بما يلائم الحالة الجديدة. ليس ذلك منحىً ما بعد حداثي، إنّما الربط بين الروح من جهة، والقتال من جهة أخرى، في عبارة الحاج عماد مغنية، يحتّم الغوص في علاقتهما الجدلية للإحاطة بفهم أعمق لظاهرة الحرب كنتاج اجتماعي. إنّ الشعب البعيد عن الحرب ومخاطرها «تتبخّر روحه» حسب تعبير هيغل ويفقد تدريجياً «معنى حريته». لا يعني ذلك ملاحقة الحرب عمداً، بل حسبنا أن نفهم أنّ الحروب ضرورة لتُقاس عبرها الأمم. وعليه، فإن الروح هنا، في سياق عبارة الشهيد مغنية، هي منظومة القيم والمفاهيم التي تبتنيها لنفسك كمقياس حضاري تبرز عبره صحّة معاييرك في «معنى حريتك». إنّها الهمّ الأخلاقي الذي يحرّك صاحبه ضدّ القهر والظلم في العالم. إنّها الروح التي تمنح صاحبها الحياة بمعناها الوجودي الشامل. لذا فالتجسيد الأمثل الذي يُعتبر المحكّ الأساسي لك كإنسان «يعرف ويكون» هو الحرب.
في الحرب، إمّا تُخْتَبرُ الأطر التي تُعرِّف فيها نفْسَك وتُعْرَف عبرها فتنجح وتَعْبُر هذا الاختبار، أو تفشل فتنكفِئ. هدف أي حرب هو هزيمة الإنسان، وهذه وظيفة العنف بذاته، فالعنف يُستعرض أكثر مما هو مكافئ للعمل الحربي. ففي استعراض العنف غاية هدفها تكثيف الخوف في الإنسان وكسره نفسياً وجسدياً، أيديولوجياً وعملياً، مادّياً ومعنوياً. هنا تجوز المقارنات لفهم كيف تُقاتل فينا الروح.
إنّ الهزيمة هي شعورٌ أكثر مما هي حالة مجسّدة. هي استدخالٌ ورُهابٌ سابقٌ على الحرب، ولذلك هي خللٌ في الوجدان، وتزعزعٌ في الروح. الهزيمة هي «نعم» مسبقة لأي طلب يريده العدو. ولذلك هي بمنزلة الخيانة، والقبول بها هو بمنزلة القاضي الذي يحكم على نفسه بالإعدام وهو قادرٌ على تبرئة ذاته، فيصير العنف حكَماً وخصماً ويصبح المهزوم هو المحكوم مؤبّداً بملء إرادته؛ إنْ وقعتِ الحرب جاءها مهزوماً سلفاً، فيحنّ دوماً للماضي، لحالة ما قبل الحرب ويرفض المواجهة ويخشاها، فيُوقِف الزمن التاريخي خوفاً من التغيير، فيما الآتي بالنسبة إليه فهو من الغيب إلى الغيب.
إنّه بذلك، إذاً، المهزوم لا بصراعٍ بل بتسليمٍ واستكانة. وبين المهزوم والمنهزم فرقٌ جليّ، المهزوم هو الذي ارتضى الهزيمة لنفسه، فنظّر لها وبرّرها وسبق حدوثها الفعلي وأرادها له ولمن حوله. بينما المنهزم، فهو الذي حكمت شروط التاريخ عليه بذلك، فهادن صراعه ولكن لم يقبل هزيمتَه، فعُطِّل عن الانتصار لحينٍ من الدهر، ولم يُهزم، وشعر بالذنب حتماً ولكن لم يسلّم، وأدرك أنّ هناك مرحلة من مراحل التاريخ لها شروطها إذ لا يمكن للتاريخ بأقصى حالاته موضوعيةً أن ينصر دوماً القضايا العادلة، ولذلك أدرك ولكن لم يتخلَّ عن قضيّته. فأنْ تقاتل فيك الروح يعني أنْ تقاتل بما تؤمن، بفلسفتك للحياة وللجمال وللنضال، بمفاهيمك لنفسك وللآخرين ولظواهر العالم، بقيمك التي تؤسس بها واقعك وتستشرف عبرها مستقبلك، بإدراكك أنّ هناك لحظة وعي حادّ، لا تتكرّر كثيراً أثناء حياتك، إنْ لم تنتهزها فقد تفشل في اختبارك الحقيقي. إنّك كلّما كنت قوي النفس والروح كلّما ازداد العنف ضدّك، وحين يزداد العنف وتظلّ تقاتل بالروح فسوف تنتصر حتماً، فقتالك ذاك، الحكيم والشجاع، هو سرّ المسألة برمّتها لأنّه على دراية تامّة بكيفية حلّ التناقضات بين الذاتي والموضوعي. وحينما يكون القتال خيارك الوحيد ولا تقاتل، بأي شكل وبأيّ وسيلة، بعصا أم بصاروخ… فأيّ إنسانٍ أنت؟
إنّ الهزيمة ثقافةٌ إذاً، فهي عند البعض مسارُ حياةٍ وخيارٌ محتّم، فلا غرو أنْ تسحب نفسها نحو التنظير والتقليل من انتصار الآخرين وخيارهم التحرري. والحرب ليست تجريداً كذلك، إنّها ارتباطٌ بين سرديات وسياقات ومصائر، ولذلك ترى كلّ الأسلحة مشرعةً فيها. وليس عبثاً عند الألسنيين أن يلاحقوا جذر الكلمات وتشابه حروفها. فأنْ تكتب حبراً أم حرباً فذا اختلافٌ في ترتيب الحروف، يكاد يكون اختلافاً في الدرجة لا في النوع. هنا تتساوى «الحربةُ» كسلاح مع «المحبرة» كقلم، كلاهما مسؤولان في الحرب عن دورهما وواجبهما ودون ذلك فإنّهما إمّا متواطئان وإمّا متواطئان. بهذا الوضوح، تكشف لك الحرب من هم معك ومن هم عليك، تشابهتِ الطوائف أمِ اختلفت، تمظهر الحليف أمِ انكفأ، وحده زمن الحرب يدلّك أن من ينتمي لعقيدة القتال لا لعقيدة الطائفة أو العشيرة هو نصيرُك، فالمقاومة لا تُعنى بالدماء التي تجري في عروق الشخص، إنّ معيارها الأساسي في التفاعل الاجتماعي والسياسي هو الفكر الذي يختمر في الذهن، وإلّا فليُطرد من لا يشعر بنفسه ذلك، عن العتبة.
«إنّ الروح هنا غلبت الروح هناك»
الأثر التاريخي الذي تتركه خلفها حربنا مع إسرائيل هو أنّ روح القتال لدينا تكفي لتعدل اللاتكافؤ المادّي الحاصل في المعركة لمصلحة العدو، وأنّ قلّة هائلة من المقاومين، من يغتسلون بوعد أنّ الإنسان جميلٌ وحُرّ، الذين انبثقوا كوردةٍ من الصخر، ومن خرجوا من أحشاء الحاضر المُرّ ليهدموه، والذين يصدق وعدُهم في النصر دائماً، هم بذرةٌ تنتمي لطمْيِ الأرض، كأنّهم مثل زهرة عبّاد الشمس، كيفما نبتت، فإنّها لا تتبع إلا الشمس. وإنّها لمفارقة، وإن جاءت حشواً على السياق، أنّنا حين كنّا نرسم بيتاً وشجرةً وشمساً ونحن صغاراً، فلم نكن نلوّن الشمس إلا باللون الأصفر. يبدو أنّ الأصفر القاني، لون الحرية المفترض، لا يشرق من الشرق، أصبحت الشمس تطلع من الجنوب، وكلُّ غدٍ سيأتي بعد الحرب، ستشرق شمسُه من فوّهة الجنوب حيث هناك باتتْ تُختصر جغرافيا الخلاص. وهناك، عند الموضع الذي تنتهي فيه عزائم الرجال ويغورُ فيه صبرُ النساء، ويظنّ الجميع أنّ الطريق بلغ خاتمته، ويرخي الناس رحْلَهم، هناك تحديداً يبدأ أوعرُ ما في الطريق وأروعه. ولكن من ذاك الذي يجرؤ عليه ويقدر؟
فعلها رجلٌ عرفناه. تجرّأ فقام وقاوم وغدا شهيدَنا الأنبل.
المصدر : الأخبار اللبنانية