تتجدد في كل ذكرى لرحيل الشاعر اليمني، عبد الله البردوني، التساؤلات الجارحة عن مصير إرثه الأدبي والفكري الذي لم يُطبع في أواخر أيامه. وهي تساؤلات تصعد إلى السطح من جديد، لكنها ما تلبث أن تعود لتتوارى مرة أخرى، وتبقى الإجابات عنها عالقة أبداً.
يتساءل الأدباء والمثقفون عن مصير هذا الإرث: أين اختفى؟ ومن أخفاه؟ ولِمَ لمْ يُكشف جدياً عن الجهة التي أخفته؟ هل اختطف؟ هل كان لديه نتاج منجز لم يطبع فعلياً قبل رحيله؟ أم أن ما يطرح من هذا القبيل يُعدّ مجرد زعم وتقولات وتكهنات لا أساس لها من الصحة؟
ما يثبت صحة الفرضية القائلة بأن إرث هذا الشاعر قد تعرض للسطو فعلياً هو أن ملحق «الثورة» الثقافي التابع لصحيفة «الثورة» الرسمية الأولى في البلاد كان يتعمد تسريب مجموعة من النصوص الشعرية التي ينسبها إلى البردوني بالتزامن مع ذكرى رحيله، وهو الفعل الذي كان يثير مجموعة من التساؤلات عن المصدر الذي يحصل الملحق منه على هذه النصوص ويصر على إخفائها متعمداً؟ ولمَ لمْ يكشف عن هذا المصدر؟ وقد دفع ذلك أحد الشعراء إلى توجيه اتهام صريح للمشرف على الملحق بأنه هو المختطف الفعلي للمجاميع الشعرية والكتب الفكرية، مطالباً إياه بنشرها، غير أن تلك الإتهامات لم تجد صداها على الواقع، وظلت التساؤلات ممتدة على آفاقها.
منذ ثمانية عشر عاماً، رحل هذا الخالد فينا أبداً، وبقي رصيده الأدبي مثار جدل نقدي فكري وسياسي لا يتوقف. فبقدر ما تطرح الفرضيات النقدية لدراسة متونه الإبداعية، تطرح الفرضيات الفكرية والفلسفية أيضاً للغاية ذاتها (محاولة القبض على المعنى المفترض فيها)، فهو المتعدد فنياً، ومتونه كذلك، ولأنهما كذلك فإنهما يظلان مثار جدل لا ينتهي.
بقي صاحب رائعة «الغزو من الداخل»، طيلة مسيرته الإبداعية – الأكثر وعياً -، محايداً، منحازاً للشعب ويكتب من أجله، ويعري السلطة بكل ما أوتي من طرائق فنية، وهو ما دفع السلطة إلى إقصائه وإبقائه في الظل، غير أنه برغم ذلك لم ينكسر ولم يهادن ولم يجعل من قلمه أداة لتلميع الطغيان أو مصالحته، بل ظل داعية حب وسلام، طامحاً بسيادة الديموقراطية والعدالة رغم الإنتكاسات وعدم الإستجابة لدعواته المتكررة في نصوصه.
لقد توغل بتوجهاته الإنسانية في أفئدة الشعب حد العظم، وأصبح رمزاً ثقافياً في المتخيل الشعبي، حتى أنه يُستدعى مع كل نائبة، عبر نصوصه التي توقّع فيها ما سيحدث، واستشرف الآتي، وتنبأ بالكوارث والنكبات التي حدث منها شيء كثير وما يزال يحدث الآن، أو سوف يحدث لاحقاً.
لقد شكل مرجعاً ومرجعية ثقافية لقراءة الواقع وتشخيص اعتلالاته السياسية والاجتماعية، وحاول أن يستنهض الإنسان ومكانه وزمانه عبر الإيعاز مرة والمكاشفة مرة أخرى، وتعرية الزائف مرات أُخر. غير أن أفعاله تلك لم تجد الصدى في لحظتها، وقد وجدت نفسها لاحقاً شواهد تؤكد أنه كان قد تحدث عنها ذات يوم وحذّر منها أو سخر بواسطتها من المآلات التي سيصل إليها الوطن وإنسانه ذات يوم.
هل كان يمثل البردوني خطراً على نظام الحكم بشكل مباشر؟ أم كان اشتغاله على مبدأ الإيقاظ والتثوير والتنوير في زمن التجهيل المتعمد هو المرعب بالنسبة إليه؟ أم كلاهما معاً؟ أم الأجيال التي ستنشأ متشربة لأفكاره المبثوثة في كتبه ودواوينه الإبداعية؟ ما يزال البردوني مثار رعب بالنسبة إلى أدوات القمع والطغيان؛ لأنه كاشِفٌ جارح لا مستكشف؛ لذلك تعرض إرثه للتغييب المتعمد، وتعرض هو للإقصاء أيضاً، إذْ لم تجسد أي جهة تنتمي للدولة أو إلى القطاع الخاص أي فعالية تليق به منذ رحيله، ولم تُسمَّ جامعة باسمه، أو منشأة – فيما عدا مكتبة البردوني – باسمه، ولم يمنح اسمه لشارع – ولو شارع خلفي -، غير أنه ما يزال ملء الكون شاعراً يتردد اسمه كرمز يقارع الطغيان ويكتب للإنسان ويحتفي بقضاياه، ما يزال حياً ينسى أن يموت، في الوقت الذي يتردى فيه الطغيان بموته كل يوم مليون مرة.
سيبقى شعر البردوني شاهداً على التحولات الكبرى في الوطن، وسجلاً حافلاً بالشواهد التي تؤكد أنه قد تنبأ بكثير من الأحداث قبل أن تحدث، كما سيبقى شاهداً على أنه قد قارع الطغيان وعرّاه وحاول استنهاض الشعب والشجر والحجر والطير لإخراجه من تابوته كائناً يحب الحياة، ثائراً على كل من سلبه حريته وكرامته وشوه مجد أسلافه العظيم.