بات واضحاً أن لثورة الاتصالات آثاراً عميقة في أوضاعنا الفكرية، وأنماط تفكيرنا وآليات اشتغالنا العقلية، لكن ذلك لا ينفي أو حتى يقلّل من تأثير الواقع بتجلياته المختلفة والمتعددة بنشوء أفكارنا وتطورها. وأيضاً في أشكال تفكيرنا المتحددة بسياق أنماط فكرية بعضها لم ينسلخ عن العقليات السائدة.
وقد أشار ابن خلدون إلى علاقة العقل بالواقع بقوله: «العقل حصيلة تجربة اجتماعية ومرتبط بسلوكها». فيما يرى بعض التربويين أن العقل عجينة رمادية يشكّلها التعليم الموجه ويصقلها التعليم الذاتي. أما أهل المعلوماتية، فإنهم ينظرون إلى العقل على أنه «آلة هائلة لمعالجة المعلومات، أو شبكة اتصالات كثيفة من المعالجات الميكروية تتقاسم مهمة القيام بالعمليات الذهنية». ويتقاطع ذلك مع قول بعضهم إن «الكمبيوتر عقل إلكتروني، والعقل كمبيوتر بشري».
وإذا كان الفرد ابن بيئته، فإن العقل نتاجها، حيث لا يمكن فصل الفكر وآلياته عن الواقع، لكن ثورة المعلومات وصلت إلى مستوى من التطور يمكّنها من المساهمة بضبط تحولاتنا الفكرية. فهي تخترق نوافذ العقل، لدرجة تبدو وكأنها تصنع أو تؤطر آليات تفكيرنا وأنماطه العامة. علماً أنه في السياق المذكور يُعاد توضيب وتوجيه العقليات القبلية من قبل جهات مختلفة، بعضها فوق وطنية، مثل الشركات التجارية العابرة للحدود والجنسية، وبعضها إعلامية، ومراكز أبحاث ودراسات تموّلها حكومات دول كبرى ومؤسسات مالية ومراكز استخبارية، وذلك لأغراض سياسية وفوق سياسية.
لقد بات واضحاً أن مصيرنا يرتبط بنحو ملحوظ بنتاج العقول. وكما هي المعرفة قوة، فإنَّ القوة معرفة. فالقوة قادرة على توليد معرفة، لكنها في لحظات كثيرة تنتج معرفة تخدم غايات وممارسات من يمتلكها من حكومات وشركات وغير ذلك من تجليات القوة، تحديداً إذا كانت قهرية لإحكام قبضتها على مصائر الشعوب ومصادر الثروة. ويشكّل العقل بكونه منتجاً للمعرفة مصدراً رئيسياً لإنتاج القوة الرمزية والمادية. لكن نجاعة القوة المعرفية ترتبط دائماً بكيفية تحليل الواقع، ومدى تعبيرها عن إنسانية الإنسان. وهي لذلك تحتاج إلى الفلسفة العلمية لإخراج النظام العالمي من أزمته الراهنة.
وقد استطاع العقل البشري في سياق ثورة الاتصالات تشكيل أدوات تواصل فائقة التطور، لكنها تحولت هي ذاتها إلى أدوات يُعاد من خلالها تشكيل آليات تفكيرنا وميولنا السلوكية. وينطبق ذلك على الإنترنت التي باتت الأداة الأكثر تأثيراً في علاقتنا مع ذاتنا ومع الآخر، وأيضاً مع العالم، لدرجة يطلق عليها بعض المتخصصين أنها العقل العالمي. ويتقاطع ذلك مع تصور تيادو شاردن عن إمكانية توحيد الوعي البشري ضمن شبكة مُفعّلة تكنولوجياً من الأفكار البشرية. أما في ما يخص مقولة المعرفة قوة، فإن ثورة المعلومات وأيضاً السياق العام لتطور الإنسان، أثبتا أن المعرفة تمنح من يمتلكها القوة. من جانب آخر، يراهن بعض المتخصصين والناشطين على أن الإنترنت سيساهم في إنعاش الخطاب الديمقراطي، وتجلى ذلك في غير دولة، منها دول الربيع العربي. لكنَّ الحكومات نجحت بالتعاون مع الأجهزة الأمنية في وأد حركات المعارضة، ومنها المستندة إلى الإنترنت.
علماً أن الحكومات لم تنجح في السيطرة المطلقة على الفضاء الرقمي، ولذلك علاقة مباشرة بانفتاح فضاء التواصل، وبما يتمتع به الأفراد والمؤسسات من إمكانات تقنية وعلمية. وكان ملاحظاً أن التنظيمات «الجهادية» استفادت بنحو ملحوظ من الثورة الرقمية، إذ استخدمت منصات التواصل لنشر أفكارها وتوسيع إطار حركتها الدعوية وتمكينها. ونشير في السياق المذكور إلى أنَّ وسائل إعلام، ومنها غربية، اشتغلت أثناء «الربيع العربي» على تضليل مجتمعاتنا وتفتيتها وبثّ الفتن فيها وتعويم الجوانب السلبية والمسيئة إلى مجتمعاتنا.
وكما يبدو، فإنَّ الحركات الديمقراطية «الرقمية»، والوعي السياسي المرتبط بها لم يتمكنا من أن يتعيّنا واقعياً، ما يعني تراجع احتمالية نجاح حركات ديمقراطية تستند إلى الإنترنت، وأيضاً تضاؤل المراهنة على دور الشبكة العنكبوتية في ترسيخ أشكال من الديمقراطية جديدة. ولذلك علاقة مباشرة بمصالح شركات عملاقة وأنظمة تسلطية تسيطر على الفضاء الرقمي وعلى مصادر القوة المادية، وعلى وسائل الإعلام، ومنها المرئية التي ما زالت هدفاً للسيطرة، وذلك لتمكين هيمنتها على أوسع الشرائح الاجتماعية سياسياً وثقافياً.
إن عصرنا الرقمي المتميز بسرعة التواصل ونقل المعلومة، يُسجّل تطوراً إيجابياً ينعكس على أوضاع الحوكمة الذاتية. فقيود التواصل الثقافي وموانعه بأدنى مستوياتها، واستخدام الإنترنت بات أسهل من أي وقت مضى.
لكن ذلك يقترن بازدياد عمليات المتابعة ورصد البيانات المتداولة على الشبكة، وتحويلها إلى معلومات سلعية تجارية وأمنية واستخبارية. باللحظة ذاتها، يحمل الإنترنت المعولم كوسيلة للتواصل ونقل المعلومات تغييرات هدّامة وأخرى خلّاقة. فكثير منا يستخدم وسائل الاتصال للعثور على إجابات لأسئلة مطروحة وللاطلاع على قضايا وأمور مختلفة.
فيما يتبع آخرون دوافعهم، لدرجة تصل إلى خضوع كثير من السلوكيات لتأثير الثورة الرقمية ومنتجاتها وأدواتها، ولركام المعلومات المنقوصة والمفككة والمبعثرة، وغير الموضوعة بسياق منظومات فكرية متكاملة. كذلك إن العلاقة مع مواقع التواصل، باتت أشبه بالإدمان، ما يؤدي إلى حالات من الاضطراب العقلي والعصبي والنفسي وإلى انتشار مظاهر عزلة الأفراد عن محيطهم الاجتماعي، واكتفائهم بالعالم الافتراضي. ونشير في السياق ذاته إلى أنَّ استخدام الشبكة ينعكس على ذاكرتنا. فكثير منا لم يعد يحفظ المعلومات يقيناً بأنها موجودة على الشبكة التي هي بمتناول يدنا. ويتجلى ذلك بإهمال تطوير ذاكرتنا وتدريبها، مقابل الاعتماد على ذاكرة خارجية معرضة للتلف بأي لحظة، لدرجة أصبح فيها الإنترنت امتداداً لعقولنا التي باتت ترتبط بشكل ملحوظ بما يسمى «الدماغ العالمي الكتروني».
وذلك يدفعنا إلى التنويه بدور الثورة الرقمية في نشوء أنماط اجتماعية وثقافية وسياسية وعقائدية جديدة وأخرى مستحدثة. فالمجتمع والدولة والثقافة والسياسة والتجارة وأنظمة وطرائق التعليم والمناهج التعليمية وطرق التواصل وأساليب التفكير تخضع وغيرها من التجليات لإعادة توضيب جذرية.
مع ذلك، فإن القطاع التعليمي العربي، وتحديداً الحكومي، لم يستوعب بعد ما وصلت إليه ثورة المعلومات، ولم يتمكن من توظيفها بالمستوى المطلوب، إذ ما زال يتدثر بعباءة التعليم المتوارثة. فطلابنا ما زالوا يعانون من إشكالية التعليم القائم على التلقين واستظهار ركام المعلومات المبعثرة، والمؤدلجة، وغير المرتبطة بأساليب التحليل والاستنتاج والإبداع، والأخطر إهمال أساليب الحوار كوسيلة لتعليم الطالب وتطوير مداركه وآليات تفكيره والمحاكمات العقلية.
وبفعل الثورة الرقمية تحوّل كثير من خبراء المعلوماتية إلى حكام جدد للعالم. وهؤلاء يشاطرون السياسيين وأصحاب الرساميل والشركات العملاقة السيطرة المالية والتقنية والمعلوماتية على العالم، ما أدى إلى تفاقم صراعات ذات سمة تدخليه تخترق خصوصيات الأفراد والمؤسسات، وأيضاً شؤون الدول والحكومات التي باتت مجالاً مفتوحاً أمام جهات متعددة، وبات أمنها وأمن معلوماتها مهدداً.
فالجميع أصبح تحت المراقبة ومهدداً بالتجسس والقرصنة، ما يؤدي في لحظات كثيرة إلى انطواء بعض المجتمعات على ذاتها والتمسك بهويات قبّلية وعقائد وأنماط فكرية تجاوزها التطور البشري، وأيضاً إلى عودة التطرف بأشكال مختلفة. والمفارقة أنه كلما ازداد الاعتماد على التقنيات الرقمية والأتمتة ازدادت المخاطر على الأفراد والدول.
نشير أخيراً إلى أن الثورة الرقمية قلصت المسافات والزمن لدرجة كبيرة جداً، وتساهم في عولمة أنماط التفكير وأشكال تجلياته، وذلك من خلال برامج التواصل التي لا تعدو عن كونها منصات لضبط الرأي العام للأفراد والمجتمعات وتأطيره وتوجيهه وتشكيله، وللتأثير في الحكومات والمؤسسات الأممية. ويتزامن ذلك مع تراجع الصحافة الورقية التي باتت مهددة بالزوال نتيجة أسباب وعوامل مختلفة ومتعددة سياسية ومالية وتقنية.
فهل سيتمكن المتحكمون بأدوات الثورة الرقمية من تشكيل عقل عالمي مُنمّط، وتغيير الطبيعة الأساسية للبشرية؟ ولذلك علاقة بتساؤل آخر يتعلق بمستوى حرية تفكير الإنسان واستقلاليته.