بعد أيام قليلة من إعلان حكومة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، عن قرار نقل ألوية الجيش- بما فيها ألوية الحرس الرئاسي- إلى خارج العاصمة عدن، نشبتْ أخطر حالة توتر أمني في المدينة بين هذه الألوية الأخيرة وقوات تابعة لأمن عدن، إثر وصول سفينة تركية إلى ميناء المدينة، اعترضت قوات الأمن على رسوها على الرصيف، لأسباب غير معروفة بالضبط ـ لكن السبب الرئيس لن يخلو من البعد السياسي ـ بينما تدخلت قوات من الحرس الرئاسي لإدخالها بالقوة إلى رصيف الميناء.
كادت هذه الواقعة أن تتطور إلى مواجهة عسكرية، لولا أن ثمة أوامر بالتهدئة، يبدو أنها قد أتت من خلف الحدود، حالت دون ذلك.
هذه الواقعة لا تعبّر فقط عن نفسها، ومكانها وزمانها كحالة عرضية، بل هي صورة مصغّرة لحالة الوضع الأمني المضطرب والمحفوف بألغام أمنية وسياسية قد تنفجر في أية لحظة في المدينة وفي عموم الجنوب.
إذاً، نحن أمام وضع أمني غير طبيعي، وبحاجة إلى الاسترشاد بالعقل والتحلي بأعلى درجات المسؤولية لتجاوزه، ولن يتأتى ذلك إلا بالتخلي عن هوَس المصالح الشخصية النفعية المادية، أو الإنغماس بالولاء الخارجي إلى درجة يكون ضحيتها أمن البلد. وضع كهذا يدل على أكثر من أوضاع مؤسفة، ومكامن خطر مقلقة، نذكر منها:
– إن هذا الوضع الأمني يعبّــر عن أعراض لحالة الاحتقان السياسي الكبير بالجنوب وباليمن كافّــة (مرآة عاكسة لصورة سريالية من الفن الأسـوَد)، وستظل هذه الأعراض- إن لم نقل ستتضاعف – حتى تزول أسبابها.
– إن الجنوبيين المنخرطين بصف سلطة الرئيس هادي وحزب «الإصلاح» (سلطة الشرعية)، وكذا المنضويين تحت راية الجنوب وحراكه الثوري ومقاومته الجنوبية، جميعهم لا يمتلكون السلطة المستقلة باتخاذ قرارتهم (غياب سيادة القرار بمختلف صور القرار وعلى راسه القرار السياسي)، إنسجاماً مع حقيقة ومنطق يمثلان أمامنا بوضوح: (من لا يمتلك لقمته لا يمتلك قراره). فالرئيس هادي وحزب «الإصلاح»- ناهيك عن أنصارهم بالجنوب – يفتقران إلى أية سلطة فعلية أو إرادة سياسية مستقلة، إلا ما يُملى عليهم من دوائر صنع القرار السياسي بالرياض والدوحة – وربما تركيا إلى حد ما- بحكم وضعهما كسلطة إفتراضية هشّة (لا تستمد قوتها إلا من قرار أممي بالمشمش)، ولا تحظى بقدر من التأييد الشعبي. سلطة لاجئة بالخارج تنشد استعادة الحكم في صنعاء من فوهة مدفعية دول الجوار. فالمملكة العربية السعودية هي من يمتلك حق الأمر والنهي بشأن سلطة الشرعية، كولية أمرها وكفيلتها. فكل القرارات التي تـتخذها تراعى فيها بالمقام الأول المصلحة السعودية، وهذا أمر طبيعي لعلاقة مبنية على قاعدة (تابع ومتبوع، ورأس وذنَــب).
كل رأس وبه صُداع… فبالمقابل يقف الجانب الجنوبي الحراكي في وضع مشابه لوضع لهادي و «الإصلاح»، ولو بشكل أقل إذعاناً وحاجة وخنوعاً. فالقرار الإماراتي هو من يضبط إيقاع النغمة الجنوبية، وهو من يكبح ويسرًع من خطوات الماكنة الجنوبية بحسب المصلحة الإماراتية أولاً وثانياً، وجنوبياً ثالثاً، برغم ما يبذله «المجلس الانتقالي الجنوبي» من جهود لإخراج القضية الجنوبية من شرنقتها الضيقة إلى رحابٍ أوسع.
لا شك أنه فوق ما هو الوضع الأمني بحالة سوء واضطراب، وفوق ما هو الوضع السياسي من حالة انسداد شديد بأفقه السياسي فقد ألقت الأزمة السياسية الطاحنة بين دول الخليج بالأسابيع الماضية والتي تقف دولة قطر في مركز دائرتها ومحور ارتكازها بظلالها الدكنة أكثر وأكثر فوق وضع أمني وسياسي كهذا، وما الحالة آنفة الذكر (السفينة التركية) إلا نموذجاً لذلك.
فلا نعتقد أن قوات الأمن بالعاصمة عدن، بمحدودية عددها وتواجدها وإمكانياتها التسليحية والمالية والتي تتبع قيادة موالية لـ «الحراك الجنوبي»، لم تتحرك لمنع تلك السفينة من الرسو بالميناء من دون إيعاز إمارتي بذلك، لما لتركيا من علاقة مباشرة بقطر. قطر التي ترى فيها أبوظبي، في الوقت الراهن، العدو اللدود لها، وترى ضرورة قطع يدها (الإخوانية) بكل بقعة في المنطقة العربية بما فيها بالطبع اليمن، وعدن وحضرموت بالذات.
فقد زادت درجة حرارة الخصومة بين البلدين قطر والإمارات بالارتفاع خلال اليومين الماضيين، بعد أن ارتفع «ترمومتر» ثقة الخطاب السياسي القطري إلى درجة التحدي، والذي يشعر معه أصحابه أنهم خرجوا بقوة من عنق الزجاجة بعد أن كان فَــعَــلَ مالها مفعول السحر بقلب المعادلة بهذه الأزمة، مع انخفاض واضح بسقف شروط دول المقاطعة إلى مستوى متدنِ وتقليص عدد الشروط الى أكثر من النصف.
وفي الوقت ذاته، لم تتدخل قوات ألوية الحرس الرئاسي في الموضوع (السفينة التركية)، إلا بتوجيهات من حزب «الإصلاح» وربما من السعودية إن لم نقل من قطر ذاتها لإدخال السفينة إلى المرسى، على الرغم من أن هذه القوات لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بأمن الميناء.
فحتى لو افترضنا جدلاً أن تصرّف قوات الأمن كان خاطئاً، إلا أن تدخلها بهذا الأمر يظل من صميم مهامها كجهة مخولة بذلك، وأي خطأ قد يحدث (أو قد حدث فعلاً) ستكون هي تحت طائلة المحاسبة، وليس من حق أية جهة التدخل باختصاص المؤسسة الأمنية الرسمية، وبالذات الجهات التي لا علاقة لها بالمؤسسة الأمنية وبحراسة المنشآت. فمثل هكذا تدخلات ستزيد من حالة تأزم الوضع، المتأزم أصلاً، ويزيد من تشابك وتداخل المهام بين عدة جهات أمنية وغير أمنية، فوق وضعها المتداخل أساساً.
للأسف، ظللنا نشكي طيلة العاميين الماضيين تشعب الجهات الأمنية وتعدد رؤوسها وولاتها الداخلية الخارجية، فضلاً عن الفكرية والأيدلوجية، فها نحن اليوم نشكي تدخلات جهات عسكرية (جيش) لا علاقة لها أبداً بموضوع الأمن العام ولا بحراسة المنشآت، وكأننا فعلاً كما يقول البعض، أمام نسخة مطوّرة من وحدات قوات (الحرس الجمهوري) لعلي عبدالله صالح، من صميم مهامها حراسة مؤسسة الرئاسة. الرئاسة التي لا وجود لها أصلاً في عدن!ش