الصباح اليمني_مساحة حرة|
تُعيد الأحداث الأخيرة المتصاعدة في القدس المحتلة قضية المدينة المقدسة إلى جدول الأعمال المحلي والدولي وتُبرِز مكانتها الخاصة كقضية مركزية في قلب “الصراع” العربي الإسرائيلي. وعلى عكس المدن الفلسطينية الأخرى، وعلى أهمية ما يجري فيها، فإن شرارة صغيرة واحدة في القدس تكفي لإشعال النار في شوارعها وأزقتها، وفي المنطقة برمتها.
إن التصعيد الأخير والاشتباكات المستمرة بين الفينة والأخرى داخل المسجد الأقصى، وفي الشيخ جراح وغيرها من أحياء المدينة، دليلٌ على القدرة التفجيرية في القدس التي يسهل إشعالها ويصعب إطفاؤها. فلما يقرب من ألفي عام، أقسم اليهود وشدّدوا على ارتباطهم “بأورشليم” في صلواتهم واحتفالاتهم، ولم يكتفوا بالغناء مع شاعرهم، حاييم بيالك: “إن نسيتك يا أورشليم تنساني يميني”، بل أقسموا أن لا يفرطوا بحبة رمل من ترابها، وأن يحافظوا عليها كي تحافظ عليهم.
كما قال رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو: “إن الحجارة العتيقة في المدينة تكشف عن العلاقة بين الشعب اليهودي وعاصمته المرتبطة به وحده، والتي لن تقسم أبداً”، مضيفاً أن “أورشليم لم تُذكر في القرآن ولا مرة واحدة، بينما ذُكرت في كتاب (التناخ) مئات المرات، سنحافظ على أورشليم، سنبنيها سنطوّرها، ولن نسمح لقوة على وجه الأرض بالحيلولة بين الشعب اليهودي وحُلمه”.
على الرغم من المكانة المركزية الوظيفية المُصطنعة للقدس في الوعي اليهودي، وكذلك في سياق الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أنها تُثير اهتمام الجمهور اليهودي حصراً في أوقات الأزمات. فهذا الجمهور لا يرى القدس إلا مدينة للسياحة والاحتفالات في ظروف الرخاء، بينما تقفز، من وقت لآخر، إلى مقدمة جدول أعماله واهتمامه فقط عقب تصاعد الأحداث فيها، فتعيد لديه التساؤل حول مستقبل المدينة وعلاقته بها.
ولم تكن القدس كذلك، بخلاف الماضي، على جدول الأعمال السياسي في الجولات الانتخابية الأخيرة لدى كثير من الأحزاب الصهيوينة، ولوحظ إلى حدٍ كبير في السنوات الأخيرة، تقليص استخدام الشعارات الرنانة كـ “القدس الكاملة”، أو “العاصمة الأبدية الموحّدة لإسرائيل”، وبدلاً من ذلك ركّز الخطاب السياسي الإسرائيلي على القدس “عاصمةً لإسرائيل”، من دون أن يُحدّد ما الذي تشمله هذه العاصمة.
والواقع أن القدس لم تعد في قلب الخطاب الإسرائيلي كما كانت، فعندما يُسأل جمهورهم اليوم عن حلولٍ لقضية القدس تبرز معطيات مثيرة للاهتمام، انعكست في السنوات الأخيرة في استطلاع الرأي العام الذي أجراه “معهد دراسات الأمن القومي”.
فقد اعتبرت غالبية الجمهور اليهودي لسنوات عديدة، القدس مدينةً “واحدة موحّدة”، وعارضت تقسيمها حتى في إطار اتفاقٍ شامل بين “إسرائيل” والفلسطينيين. لكن في السنوات الأخيرة، حدثت تصدّعات في تصوّر “القدس الموحّدة”، وانقسم الجمهور الإسرائيلي حول هذه المسألة، فلم تعد “مدينتهم الأسطورية”، أو “الأبدية غير المقسّمة” أو “صخرة وجودهم”.
يشير الاستطلاع المذكور كذلك إلى أن أحداث المواجهة المتصاعدة مع الفلسطينيين تُظهر للجمهور الإسرائيلي أن فرضية الحفاظ على الوضع الراهن و”وحدة” المدينة لم تعد صالحة، فقد تسببت هذه المواجهات في تآكل مكانة القدس “كعاصمة لإسرائيل” وفي صورة استقرار المدينة. وكلما دارت رحى المواجهة وتدهور الوضع الأمني في القدس، استمر الاتجاه التنازلي في نسبة الإسرائيليين المعارضين لنقل الأحياء العربية في القدس العربية إلى الفلسطينيين حتى بلغت نحو 60%، قبل عام من الآن.
في الواقع، تسببت أحداث المواجهة المتصاعدة التي تركّزت في القدس، بتحوّلات في موقف الجمهور الإسرائيلي من هذه القضية، ويبدو أنها قوّضت لديه فرضية أنه يمكن الحفاظ على الوضع الراهن في المدينة. هذا الاستطلاع مثير للاهتمام بشكل خاص لأنه يعكس على الأرجح الاعتراف بالواقع الذي نشأ في القدس كمدينة مُقسّمة يصعب السيطرة عليها بخلاف المزاعم الإسرائيلية.
لسنواتٍ طويلة ظل التصوّر الإسرائيلي الشائع أنه مع زيادة القوة الشُرطية وتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للسكان العرب في المدينة، وكذلك خلق الظروف المناسبة لنمو قيادة عربية محلية، وزيادة اندماج سكان الجزء الشرقي من المدينة في إدارة حياتهم، سيتم الحفاظ على “الاستقرار والسلام والعمل المُعقّد في مدينة القدس”.
بناءً على هذا المفهوم، تمت صياغة بعض الخطط الحكومية الإسرائيلية التي ارتكزت على أنه “يمكن لمجتمع مدني نابض بالحياة ونَشط ومتعدد الأجندة وعابر للحدود، متحرّر من الارتباطات السياسية أن يخلق في المدينة المتشابكة هوية مشتركة وحياةً متساوية لسكانها”.
لقد دحضت موجات العمليات الفدائية في القدس، والمواجهات الشعبية في مستوياتها المختلفة في السنوات الأخيرة، وما زالت، الافتراضات الخاطئة التي استندت إليها حكومات “إسرائيل” لرسم سياساتها في القدس حتى الآن.
الافتراض الأول أنه يمكن الحفاظ على الوضع الراهن في المدينة، بما في ذلك الحرم القدسي، من دون تفجّر المواجهة، وقد ثبت أن المدينة المقدسة والمسجد الأقصى تستمران في كونهما عناصر حشد وتعبئة ونقاط مواجهة ساخنة دائمة. أما الافتراض الخاطئ الآخر فهو أن القدس “مدينة موحّدة” وأن بعض المواقف السياسية الإعلامية الإسرائيلية كفيل بتمرير هذا الادعاء الزائف وتعميمه.
هذا الخط الفكري منفصل تماماً عما يحدث بالفعل في المدينة بكل قراها وأحيائها ومسجدها الأقصى. فعلى مر السنين، حالت “إسرائيل” دون نمو قيادة عربية محلية في أحياء المدينة العربية، مما أحدث فراغاً مرجعياً أدى لأن يطوّر الشباب المقدسي هوية سياسية فريدة بعيدة، نوعاً ما، عن السلطة الفلسطينية وتأثيرها في المدينة.
هذا الفراغ القيادي وتجاذب الشباب المقدسي بين هويات مختلفة، خَلق لديهم قناعةً بضرورة صياغة أجندتهم الخاصة وتعزّزت لديهم الأهداف الوطنية الفلسطينية، وبدأوا يستمدون قوتهم من المكانة الخاصة للقدس في السياق الإسلامي العربي، فنصّبوا أنفسهم، بجدارة، ممثلين للفلسطينيين والعرب والمسلمين. فهم حراس الأقصى وسدنته الذين يقاتلون اليوم ضد استيلاء سلطة الاحتلال على الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة، وضد محو الهوية العربية الإسلامية للمدينة.
إنهم يُظهرون اليوم استعداداً متزايداً للبذل أكثر في سبيل القدس والأقصى، كما تجلى في قضية البوابات الإلكترونية التي حاولت “إسرائيل” فرضها بمنطق القوة على مداخل المسجد الأقصى فأسقطها عنفوان الشباب المقدسي.
ومثل كل حروب المقاومة مع “إسرائيل”، فإن المواجهة التي دارت وتدور رحاها هذه الأيام على القدس وفي القدس، تدور على تفرّد اسمها ورمزيّته الدينية والسياسية. فلم يكن هدف المقدسيين في صراعهم الدائر في القدس مع “إسرائيل” الدفاع عن وطنهم وأرضهم فحسب، بل الدفاع عن إيمانهم. وعلى الرغم من أن المواجهة اليوم تبدو وكأنها تدور حول أرضٍ أو حدود، لكنها في واقع الأمر موجّهة ضد إيمان المقدسيين(العرب) وعقيدتهم، أي ضد القدس والأقصى.
فأولئك الذين يسعون لإجبار الفلسطينيين على التسليم بتقسيم الحرم القدسي، يسعون إلى عزلهم عن تاريخهم، وتدمير هويتهم الدينية الوطنية، وخلق شرخ لا يمكن التصالح أو التعايش معه. وبقدر ما يتعلق الأمر بهم، كمسلمين وعرب، فإن هذا أيضاً هو السبب الرئيسي لرغبتهم في محاربة هذا الادعاء الصهيوني، وفي استمرار تحدي العلاقة التاريخية المُدعاة الباطلة بين اليهود ومدينة القدس، فمن دون القدس لا عودة إلى فلسطين ومن يتخلى عن رمز وجوده وعقيدته بالتأكيد لا يستحقّها.
تُشكّل الساحة الفلسطينية بشكل عام، وقضية القدس والأقصى بشكل خاص، تحديات معقدة لـ “إسرائيل” خاصة ونحن على مشارف شهر رمضان الفضيل، وقد تكون لها تداعيات على المنطقة والإقليم بل والعالم. إن أمة تدرك أن من يمسك بالقدس يمسك بفلسطين كلها، ومن يتنازل عن القدس سيفلت من بين يديه الرياض وأبو ظبي، تدرك كذلك أن الطريق إلى “السلام” والهدوء في المنطقة لا يمرّ عبر القدس فحسب، بل يعتمد على هويتها العربية الإسلامية الكاملة في كل أجزائها، وبالتأكيد سيكون هناك دائماً بين الفلسطينيين والعرب من يستمر في أداء القَسم “شُلّت يميني، بل كل جوارحي، إن نسيتُكِ يا قدس”.
خليك معناالمصدر: الميادين نت