أكاد أعلن بأن نهاية السودان قد حانت .. وان علينا إعلان هذه النهاية قبل ان تداهمنا .. وان نشيعه إلى مثواه الأخيرة ، ونحسن دفنه ونقيم مراسم العزاء عليه ونترحم على تاريخه الطاهر .. فلم أعد قادراً على تحمل كل مظاهر الجبن والخسة التي عمت جميع فئات المجتمع .. ولم أعد أتحمل هذا الكذب المجتمعي الأثيم .. كما لم يعد قلبي يحترم الجوامع والصوامع والشوارع .. فالكل يتواطأ عليه ..
بل ان الجوامع أصبحت مكانا قذرا يبطل الوضوء ، خرج منها وفارقها الله ذاته بعد ان رأى المال الوهابي يدنس بيته الطاهر .. اما عن الصوامع السياسية التي يقف على رأسها كهول أدمنوا الجبن والفشل وقبلوا بالرشوة على حساب الوطن فقد أصبحت مكاناً للتدجين والخذلان.. كما ان الشوارع أصبحت تخون من يمشي عليها بعد ان ملئت بالكوليرا والدم والميتة والمتردية وما يعاف من أكله السبع .. وأصبح الناس يسيرون ورؤوسهم مطأطأة ، يقبضون على أعضائهم بأيديهم .. ولا ريب ، فمن يخشى الموت جملة يأتيه تجزئة !
بالطبع هذا الحديث المرسل يستثني الشهداء وأسرهم والجرحى والمعذبين والمعتقلين .. وكل من قدموا تضحيات وفقدوا استقرارهم النفسي والعائلي والوظيفي .. هؤلاء يظلون دائماً موضع حبي وتقديري ..
لكني أتحدث عن الكثرة الكاثرة من هذا المجتمع – وانا منهم – ولا أدعي شجاعة أكثر من غيري ، فقد هربت طلباً للسلامة بعد مضايقات عديدة هنا وهناك لا أسميها تضحيات ولا ينبغي لي ، قياساً بآلاف الضحايا ممن فقدوا حياتهم وعائلاتهم ومستقبلهم .. لذا فانني عندما أكتب إنما أكتب اصالة عن نفسي ونيابة عن هذه الكثرة الجبانة ، واتساءل: متى نهب وننتصر لكرامتنا .. متى نفيق والوطن قد تحول إلى مقبرة خربة .. متى نهب من أجله ورجاله أصبحوا يباعون عياناً بياناً في أسواق النخاسة بالخليج واليمن .. متى ننتفض وبلادنا تحولت إلى ساحل جديد للعبيد ..
متى ننهض ونسائنا يختطفن من الشوارع ويتم بيعهن كـ”اسبيرات” يدخل عائدها في جيب “قواد” الأمة وأسرته .. وماذا يا ترى سيستفز نخوتنا ووطنيتنا ان لم تستفزها الكوليرا والجوع والفاقة والهوان وإمتهان الكرامة ؟ ومتى يمكن للآخرين ان يذكروننا كأبطال وبطلات وليس كمجموعات هزيلة تستدر العطف والشفقة والإحتقار، متى ؟!
لا أعرف حقيقة ما سر حب الحياة الذي يسيطر علينا ؟ فنحن ومقارنة بأي دولة افريقية فقيرة أخرى لا نتمتع بأي ميزة من ميز الحياة تجعلنا نحبها .. بل ان ما يزيد الأسى والحسرة اننا وبرغم الواقع المخزي والأليم والبئيس الذي نعيشه لا تزال الأساطير تسيطر على عقولنا وتعشعش في رؤوسنا فننشأ على أسطوانة شرخة وكذوبة مفادها اننا أشجع شعوب الأرض – يا للهول- هذا مع اننا نتذيل قوائم العار في كل المجالات الحياتية ؟ فكيف تستقيم الشجاعة مع الوضاعة؟!
ان الحقيقة التي لا مراء فيها اننا جبناء .. واننا نداري هذا الجبن بتمثيليات فاشلة وساذجة لا تصدقها حتى نفوسنا .. فكل من كتب عبارة عقيمة على مواقع التواصل الإجتماعي اعتبر نفسه مناضلاً وشجاعاً أدى دوره تجاه وطنه بأكمل وجه .. ولا يعرف هذا الأحد الفاشل انه فشل حتى في التمثيل على نفسه .. بل فشل حتى في استخدام التكنولوجيا فحولها من نعمة إلى نقمة ، فحولته هي الأخرى إلى شبه مجنون يصدق توهماته لا فعله .. وكانت النتيجة ان تحولنا من جبناء إلى مجانين جبناء!
هذه ليست دعوة للإساءة والهزوء وتثبيط الهمم .. ولكنها دعوة لخيانة الأوطان الكذوبة التي تعشعش في أدمغتنا المتعفنة .. والتركيز على الوطن الحقيقي بأفعال حقيقية ملهمة .. تماماً كدعوة الأديب السوري الراحل الكبير “محمد الماغوط” ، والذي عندما رأى شعبه يتماهى مع الإهانة كتب مخطوطه القيّم: “سأخون وطني” .. وهي صرخة أدبية مثخنة بالصدق والألم والجراح .. صرخة ضد خيانة الأوطان بالإستسلام .. وعلى نهجه قررت ان: أخون وطني.