ينزع الكتّاب والصحفيون والمفكرون والسياسيون فى بلدان العالم العربى المختلفة إلى التوقع والتأكيد والتحذير مما ينوى أو يخطط له الرئيس الأمريكى المنتخب الجديد من تغيير فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة ترتيب العلاقات مع أوروبا والمكسيك وحلف الناتو وروسيا والصين وكوريا الشمالية والشرق الأوسط. كما تكثر الأحاديث عن طموحه لوضع الأسس خلال زيارته القصيرة القادمة لمنطقة الشرق الأوسط لحل النزاع الفلسطينى الإسرائيلى.
تتكرر هذه الظاهرة مع تسلّم كل رئيس أمريكى جديد مهام قيادة الولايات المتحدة، ويخبو بريقها بعد مرور الأشهر الأولى لفترته الرئاسية.
من الأمور المعروفة فيما يتعلق بولاية وتخصص الرئاسة الأمريكية، والتطورات والإضافات المتعلقة بهذا الشأن فى الدستور الأمريكى، أن سلطة الحكومة الفيدرالية ورئيسها، الذى هو الرئيس الأمريكى، معدومة عملياً فى كل الأمور الداخلية، ومحددة بصرامة فى مواضيع ذات طبيعة فيدرالية، منها السياسة الخارجية والقوات المسلحة والضرائب الفيدرالية والغابات وخفر السواحل وإصدار العملة الموحدة وبضعة أمور أخرى. الرئيس الأمريكى لا يحكم الولايات المتحدة ولا شعبها، والذى يقوم بذلك هو السلطات المدنية المنتخبة على مستوى النجوع والقرى والمدن الصغيرة والكبيرة والولايات الخمسين، التى وافقت على الانضمام إلى دولة الولايات المتحدة الأمريكية. البيت الأبيض فى واشنطن يدفع تكاليف الماء والكهرباء والنظافة المترتبة عليه لبلدية مدينة واشنطن، ولا يستطيع موكب رئيس الولايات المتحدة الخروج من خلف أسوار البيت الأبيض إلى شوارع مدينة واشنطن إذا لم يرسل مدير الشرطة المدنية للمدينة سيارات الشرطة لمرافقة وقيادة موكب الرئيس، الذى لا يملك هو أو حراسته العتيدة حق إغلاق الشوارع أو منع المواطنين من المرور أو القيادة.
سلطة الرئيس الأمريكى الأهم والأوسع هى فى مجال تخصصه، الذى نص عليه الدستور وإضافاته فى الإشراف وتقرير وتنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولكن هذا الاختصاص أيضاً مُكَبّل بتداخلات المجلسين التشريعيين الأمريكيين، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وخاضع أيضاً بشكل أو آخر لجماعات الضغط. اكتسب مجلس النواب- المفروض أنه مجلس مختص بشكل محدد بفرض الضرائب وتوزيع الميزانية- نفوذه على وزارة الخارجية الأمريكية وسياساتها وقراراتها بربط صرف ميزانية الوزارة بتعديل أو وقف أو تنفيذ بعض قراراتها وفق قرارات مجلس النواب، الذى هو بالمناسبة صاحب قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس منذ سنوات طويلة، والذى تمت المساومة عليه بأن تقوم الحكومة الأمريكية بتقديم مذكرة للمجلس كل ستة أشهر بالأسباب المتعلقة بالمصالح العليا للشعب الأمريكى، والتى تقف عائقاً أمام تنفيذ رغبة مجلس النواب الأمريكى.
هذه العوامل تقلّص بشكل كبير صلاحيات الرئيس الأمريكى فى تقرير وتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط بشكل عام، والشأن الفلسطينى بشكل خاص، والتاريخ والتجربة هما دليل لا يقبل الدحض. لقد تراجع أو عدّل أو ألغى الرئيس ترامب تقريبا معظم تصريحاته وقراراته التى صرّح بها بعد توليه الرئاسة الأمريكية. كما استغرق الرئيس أوباما الفترتين الرئاسيتين ولم ينجح فى إغلاق معتقل (جوانتانامو) كلياً بعد. وأعلن الرئيس كلينتون، بعد ثمانى سنوات فى البيت الأبيض، عن فشله فى تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بسبب عدم تأييد المجلسين التشريعيين والحزبين الرائدين لجهوده وأفكاره. وتم تعديل مؤثر فى قانون الصحة، الذى يُعتبر الإنجاز الأكبر فى رئاسة الرئيس أوباما، بعد أقل من مائة يوم على مغادرته المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض.
بدون توافق وموافقة قيادات الحزب الديمقراطى ومجلسى النواب والشيوخ، وقادة البنتاجون وكبار ضباط القوات المسلحة الأمريكية، فإن الرئيس ترامب لن يحارب إيران، ولن يهاجم كوريا الشمالية، ولن ينسحب من حلف الناتو، ولن يجبر المكسيك على دفع تكاليف الجدار الفاصل على حدودها مع الولايات المتحدة، ولن يقنع أو يجبر السعودية على دفع حصتها من تكاليف وصواريخ وأسلحة الجيش الأمريكى فى مخططات الدفاع عن المنطقة، ولن يستطيع تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حتى لو آزرته جميع الدول العربية، لأن المشكلة ليست الدول العربية، ولا حتى أمريكا، ولكنها إسرائيل والفصائل الفلسطينية. ولن يساعد اعتناق الرئيس الأمريكى مؤخراً لمقولة إن مشكلة فلسطين هى أساس الإرهاب فى المنطقة والعالم فى دفع إسرائيل والفلسطينيين، وربما الدول العربية، للسعى لتحقيق السلام، لأن الإرهاب الذى يتحدث عنه ويحذّر منه الرئيس الأمريكى، والذى ضرب معظم دول العالم تقريباً.. لم يضرب إسرائيل بتاتاً.
الرئيس الأمريكى سيزورنا حاملاً معه ملفين أساسيين له وللولايات المتحدة، ويحظيان أيضاً باهتمام مشروع لقادة دول المنطقة:
1- ملف الإرهاب، الذى سيشغل وقت وعقل مَن سوف يجتمع معه ترامب من قادة المنطقة. محاربة الإرهاب أصبحت تحالفاً دولياً، ربما يجمع كافة دول العالم، وهو الموضوع ربما الوحيد الذى تترأسه وتدعمه القوتان الأعظم. سوف يكون الرئيس الأمريكى مستمعاً جيداً لرأى الرئيس السيسى والملك سلمان والملك عبدالله، الذين أيديهم فى النار وعقولهم مدركة لأبعاد وأخطار الإرهاب، لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده، والمنطقة وشعوبها قد كابدت الكثير الكثير. هناك التزامات سياسية ومالية واقتصادية كثيرة وكبيرة يجب أن يتعهد بها الرئيس ترامب، الذى يعرف أن المزاج السياسى الأمريكى الحكومى والتشريعى والإعلامى والشعبى ميّال لتأييده فى هذا الجهد.
2- ملف تحجيم الجهود الإيرانية تجاه حدودها الغربية سوف يأخذ وقتاً واهتماماً، خاصة أن دولاً عربية عديدة بدأت تتحسس الخطورة على الأمن والسلام المجتمعى فى بلادها. يسعى الرئيس ترامب لتمتين ما يمكن تسميته «تجمع الدول السنيّة» وتعاونها فى عمل جماعى سياسى، وربما أمنى، لوقاية نفسها من مصير يشهده العالم كل يوم فى بلاد عربية قريبة وعزيزة. يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً مؤثراً فى هذه الأزمة الإقليمية، التى تبدو ليست قريبة الحل.
أسهل الملفات التى يحملها الرئيس الأمريكى ترامب معه هو ملف النزاع الفلسطينى الإسرائيلى!! فلا الإسرائيليون مستعدون لأخذ خطوة للأمام، ولا الفلسطينيون قادرون على الاتفاق بينهم على ما يريدون. والهوة كبيرة بينهما، وميزان القوة لا يرحم، وليس إلا بعض خطوات رمزية وقليلة الكلفة ومريحة لاستمرار الأمور على ما هى عليه. ربما مساعدات مالية مشروطة للسلطة الوطنية، وبعض الأسلحة والتدريب، ورفع بعض الحواجز، وتخفيف الحصار على غزة، وإعادة تشغيل بعض عمال غزة فى إسرائيل، وربما السماح للصيادين فى غزة بميل أو ميلين بحريين، ويمكن التوسط لإنهاء اعتصام المعتقلين المناضلين الجائعين، واحتمال تسهيل المرور من معبر بيت حانون وزيادة ساعات عمل معبر رفح.. وهكذا دواليك. الإسرائيليون سوف يتلقون من الرئيس الأمريكى الزائر مساعدات ورشاوى أخجل من مقارنتها بنصيبنا كفلسطينيين. والجميع سيكون مسروراً وفرحاً، بينما نبقى- نحن الفلسطينيين- وفق المثل المعروف: «قامت الحزينة تفرح…»، والسلام ختام.
# المستشار السياسى للرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات