صنعاء :فاتن محمد |
تعتبر مدينة صنعاء واحدة من أهم وأقدم المدن التاريخية في العالم بل هي أقدم المدن العربية وأعرقها تاريخاً وحضارة ، حيث تشير كُتب التاريخ إلى أن عمر مدينة صنعاء التاريخية الواقعة وسط الهضبة اليمنية على ارتفاع حوالي (2150) متراً عن مستوى سطح البحر بالسفح الغربي من نقم ،يزيد عمرها عن سبعة ألاف عام ،ويحيط بها سور عظيم أسس في القرن السادس الهجري ولها عشرة أبواب لم يبق منها اليوم سوى باب واحد والذي يسمى باب اليمن وسمي بذلك لوقوعه جنوب المدينة وقد رمم هذا الباب مرات عديدة إلى جانب الجزء المتبقي من السور .
مدينة سام:
تعد المدينة القديمة إحدى المدن السبئية التي تكرر ذكرها في النقوش كأحد المواقع الهامة للملكة سبأ في عصور ما قبل الميلاد ، وحيث تضاربت المعلومات حول تاريخ تأسيس مدينة صنعاء القديمة لأول مرة ‘إلا أن معظم المصادر الإخبارية والروايات التاريخية تؤكد أن تاريخ هذه المدينة يعود إلى عصور ما قبل الميلاد، كأول مدينة بنيت بعد الطوفان وأن الذي بناها هو سام ابن نوح عليه السلام ، ولذلك سُميت مدينة(سام)، وبالنسبة للنقوش السبئية فإن أقدم ذكر لمدينة (صنعاء) في هذه النقوش يعود إلى عهد (هلك امر بن كرب إيل وتر يهنعم) ملك سبأ وذي ريدان الذي عاش في القرن الأول الميلادي، ويذكر النقش مدينة (شعوب) التي هي اليوم حي من أحياء المدينة وفيه يقع الباب الشمالي لصنعاء القديمة المسمى (باب شعوب).
مدينة أزال:
كما حملت صنعاء القديمة بعد ذلك اسم مدينة (أزال) نسبة إلى أحد ملوك (سبأ)، وهو آزال بن يقطن بن العبير بن عامر بن شالخ حفيد سام بن نوح الذي ورد اسمه كذلك في اللغة اليمنية القديمة وتعني القوة والمنعة وقد ورد الاسم ( آزال) في التوراة أيضاً، ثم جاء اسم (صنعاء) بعد ذلك واعتبر مرادفاً لاسم (أزال) واشتق اسم صنعاء من صنع بمعنى حصن و(منع) ، كما يقال انها سميت ” صنعاء” لجودة الصنعة واشتهارها ببعض الصناعات النحاسية والفضية وغيرها،
عاصمة التاريخ:
ويقول المؤرخون ان صنعاء مرت بمراحل تاريخية عديدة قبل الإسلام منها الاحتلال الحبشي لليمن وفي تلك الفترة شهدت صنعاء أهم مرحلة وهي حكم ” ابرهة” الذي اتخذها عاصمة وبني فيها كنيسة” القليس ” وزينها بالرخام والفسيفساء , وأراد نقل الكعبة المشرقة إلى صنعاء ليحج إليها العرب .
وكان “ذو نواس” آخر ملوك الدولة الحميرية قد اتخذها عاصمة لملكه في مطلع القرن السادس الميلادي، وكذلك أيضاً جعلها الأحباش الذين غزوا اليمن وحكموها من 525م حتى 575م.
وكما تشير مصادر التاريخ فقد تعرضت صنعاء للغزو حوالي 20مرة بين عامي 901-913م وقد تحدث كثير من المؤرخين الأوائل عن صنعاء وإخبارها فذكرها ” أبو علي بن دسته” في كتابه الأعلاق النفسية ” بقوله :” هي مدينة اليمن وليس باليمن ولا بتهامة ولا بالحجاز مدينة أعظم منها ولا أكثر أهلا وخيراً ولا اشرف أصلا ولا أطيب طعاماً منها”.
أما الرحالة ابن بطوطة فقد وصف صنعاء عند زيارته لها بقوله: “هي قاعدة بلاد اليمن الأولى ومدينة كبيرة حسنة العمارة بناؤها بالآجر والجص‘ كثيرة الأشجار والفواكه والزرع‘ معتدلة الهواء طيبة الماء، ومدينة صنعاء مفروشة بالأحجار فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها وجامع صنعاء من أحسن الجوامع”.
وعن صنعاء قال أحمد القلقشندي:” هي من أعظم مدن اليمن وبها أسواق ومتاجر كثيرة ولها شبه بدمشق لكثرة مياهها وأشجارها، وهي كرسي ملوك اليمن في القديم ويقال أنها كانت دار ملك التبابعة، وعماراتها متصلة وليس في بلاد اليمن أقدم منها عمارة ولا أوسع منها قطراً وبها تل عظيم يُعرف بتل(غمدان) “.
أصالة وعراقة:
صنعاء مازالت تحتفظ بإصالتها وعراقتها وتراثها وفنها المعماري المتميز والمعروف هندسياً بالجزر الحدائقية منذ آلاف السنين والذي تتجلى روعته وجماله بتلك القصور والمنازل المتناسقة البنيان والألوان والمحاذية أو المتقاربة من بعضها والمبنية من الأحجار المنحوتة واللبن والياجور والتي تزينها النقوش والرسومات والزخارف المتنوعة في الجدران وعلى النوافذ والعقود البيضاء ” القمرية ” المثبتة أعلى كل نافذة والمصنوعة من مادة الجص الأبيض والمزخرفة بقطع صغيرة من الزجاج الملون بأشكال بالغة الجمال بالإضافة إلى قبات المساجد والمآذن العالية البيضاء وما عليها من زخارف ونقوش والمنتشرة بعدد كبير داخل المدينة وكذا بساتين العنب والفرسك والرمان وغيره .. كل ذلك يجعل من صنعاء القديمة لوحة فنية وفاتنة يتغنى بها الشعراء في مختلف العصور قديماً وحديثاً.
مدينة القصور:
وعرفت صنعاء القديمة بمدينة القصور نظراً لان منازلها تتألف من مجموعة طوابق أضافه إلى التقاسيم الجميلة التي كانت تتبع في عملية البناء.
كانت صنعاء تضم ثلاثة أحياء هي :
القسم الشرقي من المدينة وهو القسم الأكبر ويضم الأحياء القديمة والأسواق والمساجد تمتاز مبانيه بالفخامة والزخرفة وتعدد الطوابق
القسم الأوسط وهو مجموعة من الحدائق وقصور الإمام والأمراء والحاشية وبعض المنازل ذات الطابع العثماني بالنوافذ الخشبية .
القسم الثالث مدينة اليهود التي يفصل بينها وبين القسم الأوسط من المدينة سور ترابي له بابان يغلقان مع غروب الشمس ولا يفتحان إلا مع طلوع الفجر،وكان اليهود اليمنيون في مدينة صنعاء يشكلون طبقة أحسن حالاً من بقية طبقات الشعب من حيث مستوى المعيشة وكانوا يزاولون أعمالهم وديانتهم ويتمتعون بحماية الإمام مقابل دفع الجزية لبيت المال.. وكانت منازلهم مبنية على نمط مختلف عن الأنماط الأخرى الشائعة في المدينة كما لا يزيد ارتفاعها عن طابقين .. وكانت جدرانها الخارجية تطلى بالطين،وعندما غادر يهود صنعاء وطنهم إلى غيره باعوا منازلهم ومحلاتهم إلى أهالي المدينة الذي لم يحافظوا على طابعها القديم فقاموا بهدم الابنية التي كانت من اللبن البني واستبدلوها ببناء من الحجر والطوب المحروق.
وتوسعت صنعاء في عهد الدولة الهمدانية في القرن الحادي عشر الميلادي ثم في عهد الدولة الأيوبية وفي العهد العثماني الأول ثم في القرن السابع عشر والثامن عشر .
معالم تاريخية:
الجامع الكبير:
من أعظم واشهر معالم مدينة صنعاء في العصر الإسلامي الجامع الكبير الذي يقال ان الامام غلي بن ابي طالب كرم الله وجهه هو الذي وضع له حجر الأساس سنة 270هـ و قام الملك محمد بن يعفر بتوسيعه وتعميره بعد ان هدمته السيول عام 265هـ وكان وسع قبل ذلك في عهد العباسيين سنة 136هـ .
ويقول عدد من المؤرخين أن الصحابي (وبر بن يحنس الخزاعي الانصاري) هو الذي بنى الجامع الكبير بصنعاء في العام السادس من الهجرة بأمر من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. وقد كان بناء هذا المسجد على نفس الطراز المعماري للمدينة، قبل ان تتم توسعته في عهد العباسيين.
قصر غمدان:
هو من أشهر القصور في تاريخ العرب وهناك روايات مختلفة في وصفه ومن الذي بناه بعضها يقول ان الذي بنى قصر “غمدان” هو سليمان يعرب بن قحطان، وذكر ابن هشام ان الذي بناه كان يعرب بن قحطان وأكمله من بعده وائل بن حمير بن سبأ بن يعرب وروي أن مؤسسه آزال بن قحطان بأمر أخيه يعرب، وبعضها يقول ان سام ابن نوح هو الذي بناه‘ وأخرى تشير إلى أن الملك سليمان بن داوود عليه السلام أمر الجن ببناء ثلاثة قصور للملكة (بلقيس) التي حكمت اليمن في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد وهي قصر غمدان وقصر سلحين وقصر بينون .
غير أن بعض الروايات ترجح أن سام بن نوح هو الذي بنى هذا القصر، وحول هذا الجانب يقول أشهر مؤرخي اليمن أبو محمد الحسن الهمداني في كتابه المعروف (الاكليل)‘ إن قصر غمدان هو أول قصور اليمن وأعجبها ذكراً وأبعدها صيتاً، والذي أسس غمدان وابتدأ بناءه وحفر بئره هو سام بن نوح.
وقيل ان قصر غمدان كان يتألف من عشرين طابقاً كل طابق يبلغ ارتفاعه “20ذراعاً ‘ وان الغرفة الواقعة في الطابق الأخير كانت مخصصة للملك وكان في أركانها الأربعة أربعة اسود نحاسية صفراء صدورها خارج الغرفة فإذا هبت الريح في اجوافها زأرت كما يزأر الأسد.
أسواق صنعاء:
ومن الاسواق التي تتجلى منها روعة الابداع الحرفي التراثي ، سوق “الفضة”. والنشاط في هذا السوق يتم في شقين: أحدهما يمثل بعملية بيع وشراء المصوغات والحلي غيرها من التحف والأدوات الفضية، وفي الجانب الآخر هناك من يقوم بعملية التصنيع وإعادة التصنيع لأنواع مختلفة من المصوغات والمشغولات الفضية. وان كان هذا النوع من النشاط محصوراً في نطاق محدود وعلى عدد معين من الحرفيين.
والى جانب العقيق اليماني هناك ايضا “المرجان” و “اليسر” و”الكرب” الأصفر والأحمر وغيرها من الاحجار الكريمة التي تدخل في إطار الصناعات الفضية بصنعاء القديمة، ومن الفضة يتم تزيين الخناجر اليمنية المعروفة “بالجنبية” والأحزمة والسيوف وغيرها.
وهناك سوق “الجنابي والعسوب” و “الجنبية” وهناك سوق “النحاس” الذي يشتمل على العديد من الصناعات النحاسية المختلفة والتي لا زال الكثير منها يحتفظ بطابع التراث “الصنعاني” الرائع ،اضافة الى سوق “المحدادة” وفيه تتم صناعة الأدوات الزراعية كالمحاريث و الفؤوس والمعاول والعتلات والسكاكين وغيرها من الأدوات المصنوعة من الحديد ،اما سوق “المنجارة” ففيه تتم صناعة الابواب والنوافذ الخشبية على الطريقة القديمة، وكذلك سوق الملح حيث تباع البهارات والحبوب .
في الختام:
نعم.. هذه هي صنعاء.. مدينة الحُسن والجمال وقبلة التاريخ ومنبع الحضارة والتراث.. صنعاء التي ظلت على مر العصور قدّيسةً في أفئدة الشعراء الذين راحوا يسترسلون الشعر وينظمون قصائد الغرام والقوافي التي تتغني بها وما حوته من قيم الجمال والأصالة في أروع وأزهى صورها ، حيث تطيب الحياة والاقامة بأهلها البسطاء ،والذين سنتوقف في محرابهم في تقارير قادمة.
خليك معنا