الصباح اليمني_مساحة حرة|
هناك عدم توافق في المجتمعات العربية على كيفيّة رؤية مسألتين، هما بمثابة مسلّمات ومنطلقات في المجتمعات الحديثة الناجحة: الهُويّة ودور الدين. فحسم كيفيّة فهم هاتين المسألتين هو الأرضية الأساسية لبناء أوطان عربية متقدّمة وموحّدة، ومن دون ذلك، سيبقى الخلل قائمًا، والتصدّع محتملًا، في بنية ووحدة أي بلد عربي. فالإصرار على أولوية “الهُويّات” غير الوطنية والعربية سيجعل ولاء بعض المواطنين لخارج وطنهم، بحكم “المرجعيات الدينية أو الإثنية”، وسيوفّر المناخ المناسب للتدخّل الأجنبي ولصراعاتٍ أهلية.
لكن هذا ليس بموضوعٍ جديد على منصّة الأفكار العربية. فهو موضوعٌ لا يقلّ عمره عن مائة سنة، إذ منذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديدًا حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي بعد انتهاء الحقبة العثمانية إلى دول وكيانات وفق اتّفاقية “سايكس- بيكو”. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافية والعامل الديني الحضاري. فالعروبة والإيمان الديني حالة متلازمة في المنطقة العربية، وهي مختلفة عن كل علاقة ما بين الدين والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (وهو هنا الإسلام)، كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية وأن تستبدل أبجديتها العربية باللاتينية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب، المتمسّكين بدينهم الإسلامي، يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية يعني التخلّي أيضًا عن دينهم، قياسًا على التجربة القومية التركية في مطلع القرن العشرين، بينما الأمر يختلف من حيث خصوصية العلاقة بين العروبة والرسالة الإسلامية، فهي مسألة خاصّة بالعرب لا تشترك معهم فيها أيّة قومية أخرى في العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم.
وكما صحَّ القول المعروف: “كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيّتها الحرّية”، فإنّ جرائم عديدة حصلت وتُرتكب باسم “الهويّة” الوطنية أو العربية أو حتّى الدين نفسه… لكن، هل أدّت الجرائم باسم “الحرّية” إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فردٍ وجماعة وأمَّة..؟!.
لقد كانت “الهُويّة العربية” تعني – وما تزال- القناعة بأنّ العرب أمَّةٌ واحدة تتألّف الآن من أقطار متعدّدة، لكنها تشكّل فيما بينها امتدادًا جغرافيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا واحدًا، وتتكامل فيها الموارد والطاقات البشرية والمادّية. والمتضرّرون من تثبيت وتفعيل هذه “الهُويّة” هم حتمًا من غير العرب، الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحّد شعوب الأمَّة العربية؛ حفاظًا على مصالحهم في المنطقة، وعلى مستقبل استنزافهم لثرواتها.