الصباح اليمني_مساحة حرة
يُعرف عن طائر النعام بأنه لا يميّز الأصوات بدقّة، وأنه يعمد إلى دفن رأسه في الرمال لأسباب عدّة أبرزها ألّا يسمع وقع خطوات عدوّه القادم لافتراسه! هكذا هي حال عدد من السياسيين الذين يتعاطون باستخفاف شديد مع الأمور الجوهرية مثل الأمن الوطني، ويستندون إلى قرارات الأمم المتحدة أو الدعوة للوقوف على الحياد لحماية لبنان.
لا يوجد دولة في الدنيا تتّكل على الغير وتعرّض مصيرها وسيادتها للخطر كما يجري الآن في لبنان. مفهوم السيادة عجيب عندنا. ففي خضم الصراع الحالي مع الغزوة الصهيونية، اكتشف عدد من الدول الأوروبية، التي تقف إلى جانب حرب الإبادة الصهيونية، أن الحياد هو في مصلحة لبنان. وهذا ما نصح به ماكرون في خطابه أمام المؤتمر الدولي لدعم لبنان الذي عقد الأسبوع الماضي.
وذكّرني موقف الرئيس الفرنسي هذا ببيت من الشعر لأبي الأسود الدؤلي يقول فيه:
«لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم».
ويتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل تقف فرنسا على الحياد بيننا وبين الغزوة الصهيونية التي نواجهها الآن؟ ولماذا تطلب من الشعب اللبناني ما ترفضه؟
فرنسا تقول، بلسان رئيسها أمام مجلس النواب المغربي هذا الأسبوع، إن لإسرائيل الحق في إبادتنا لأنها تدافع عن نفسها! ووفقاً لجميع المعلومات فإن السلاح الفرنسي يتدفق على إسرائيل كما يتدفق على أوكرانيا. وماكرون شخصياً كان أول رئيس أوروبي يعتبر أن العداء للصهيونية هو عداء للسامية.
إذاً، الحياد في القاموس الفرنسي، بالنسبة إلى المشروع الصهيوني، غير وارد إطلاقاً. لذلك، إنّ النصيحة التي قدّمها لنا ماكرون ما هي إلا بمنزلة السم في الدسم. يوجد جهل مطبق لأبعاد المشروع الصهيوني وخطورته لدى كثيرين. فهذا المشروع هو مخطط قيد التنفيذ الزاحف، ولا حدود له حتى الآن. ومن الغباء أن يطرح بعض اللبنانيين فكرة الحياد أمام هكذا مشروع. وإذا افترضنا جدلاً أننا قبلنا بالحياد، فمن يضمن أن يقبل الصهاينة بذلك؟
إنّ مَنْ ينشد الحياد تنطبق عليه تماماً قصة جحا الذي أعلن أنه «قرّر» مع زوجته ونجله أن يزوجوا الابن إلى ابنة الملك… وبقي أمامه فقط أن يوافق الملك والملكة والابنة على هذا القرار!
هل أخرج دعاة الحياد الصهاينة من بيروت ومعظم الأراضي اللبنانية؟ وهل هرب الصهاينة من لبنان بسبب الحياد والقرارات الدولية؟ أم إن الذين طردوهم هم المقاومون اللبنانيون الذين حرروا البلاد بدمائهم؟ ولماذا لم يُشهر دعاة الحياد طوال المدة الماضية سلاحهم «الحيادي» لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة؟
وثمة أسئلة أخرى كاشفة: هل كان لبنان على الحياد في الحرب على سوريا؟ أم إن الطغمة السياسية – المصرفية الحاكمة حوّلت لبنان إلى مركز أساسي لنقل السلاح والمقاتلين إلى الداخل السوري مقابل المال الوفير؟
يتجاهل دعاة الحياد في لبنان حقيقة أطماع الصهاينة في الأرض اللبنانية والمنطقة. هذا دافيد بن غوريون، أحد مؤسسي الكيان، يعلن عن تلك الأهداف في كلمة ألقاها خلال اجتماع لرئاسة الأركان في أيار سنة 1948، نقلها ميخائيل بن زوهار في كتابه عن سيرة بن غوريون (نيويورك 1978)، يقول: «يجب أن نتحضر للهجوم. أهدافنا تحطيم لبنان والأردن وسوريا. النقطة الأضعف هي لبنان. علينا إسقاط لبنان، ومن السهل إنجاز ذلك.
يجب أن نقيم دولة مسيحية هناك، ونهزم الفيلق العربي في شرق الأردن، وهكذا ستسقط سوريا في أيدينا، ثم نتحرّك للاستيلاء على سيناء وبور سعيد والإسكندرية». قد يبدو للبعض أن هذا الكلام يتضمن مبالغات، ولكن من كان يتخيل أن المستوطنين الأوائل الذين استولوا على أراضي قرية ملبس الفلسطينية شرق يافا عام 1878 وشيدوا مستعمرة «بتاح تكفا»، سيتحولون مع زيادة أعدادهم إلى مشروع استيطاني ضخم، أقدم على تهويد معظم فلسطين، وحارب دولاً عربية وانتصر عليها واحتل أرضها. وهو اليوم يهدد جميع كيانات المنطقة ويهدف إلى تبديل الواقع في مجتمعاتها؟ هل الحياد والقرارت الدولية توقف هذا التهديد الإستراتيجي؟
نحن اليوم في لبنان نحصد نتائج سياسات «قوة لبنان في ضعفه». الضعيف والخانع هو عرضة لأن يفترسه القوي كما ثبت من كل الأحداث عبر التاريخ. اليوم يتبيّن لنا أن الاستقرار السابق في لبنان كان مزيفاً وشبيهاً بالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال. والدليل أن لبنان كله اليوم تحت رحمة المجرمين الصهاينة. أمّا ما يسمّيه البعض «الزمن الجميل»، فما هو إلا خداع للذات.
لا استقرار في بلادنا مع وجود المشروع الصهيوني. خلال القرن التاسع عشر كان القول الفصل في شؤوننا الداخلية للقناصل. واليوم هناك سفارات تأمر السياسيين اللبنانيين فينفذون. إنّ مَنْ فرّط بودائع الناس ونهبها لا يمكن أن يكون أميناً على الوطن.
الأمل ببزوغ فجر لبنان الجديد هو الآن في أيدي أبطال المقاومة الذين يواجهون مجدداً الغزو الصهيوني. فعلى أكتاف هؤلاء الجبابرة يتوقف مصير بلادنا.
المصدر: الأخبار اللبنانية
خليك معنا