مباشرةً، إثر حرب صيف 94م، خرج الرئيس صالح عبر وسائل الإعلام، يعلن عن انتهاء «الجهاد الأصغر» (القتال)، وبداية «الجهاد الأكبر»: البناء والتنمية، والقضاء على الفساد…
تفقّد صالح حينها بعض المؤسسات الحكومية، هدد أعداء الاستقرار والتنمية بالضرب بيدٍ من حديد، وأحال بعض الفاسدين إلى التحقيق.
لكن تلك الحملة توقفت فجأة، لأسباب قد تكون مفهومة، ربما من أهمها أن الرئيس السابق الذي تأثر يومها باللغة «الجهادية» لشركائه، لم يستطع التأثير عليهم بمفهومه التنموي للجهاد الأكبر، والذي كان من الواضح أنه سيجرد كبار شركائه وحلفائه، في ذروة نشوتهم بالـ«فتح»، كما كان يسميه الشيخ الأحمر، من غنائم العقارات والنفوذ والأسلحة والمليشيات والإعتمادات… لصالح دولة النظام والقانون.
وسواء كانت تلك المبادرة جدية، أو مراوغة سياسية، فقد بدا المشروع التنموي مقابلاً معقولاً للفداحة التي خلفتها الحرب. لقد فوّت صالح، لصالح القبائل والعسكر و«الإخوان»، فرصة ذهبية لحل قضية الجنوب في المهد، بإصلاح ما يمكن إصلاحه مما دمرته الحرب مادياً ومعنوياً، وسحب البساط من تحت أقدام المزايدين بقضية الجنوب، وتدشين مرحلة مختلفة في التاريخ اليمني الحديث.
بدلاً من ذلك تمت دحرجة القضية الجنوبية، في ملفات الترحيل، بطريقة دحرجة كرة ثلج صغيرة تضخمت في كل دورة وصولاً إلى صناعة كارثة بحجم الحراك الجنوبي السلمي والمسلح، والمظاهرات الحاشدة في عدن، والتي تطالب اليوم بالانفصال، أكثر من أي وقت مضى.
يعني هذا بالضرورة أن ما يحدث في الجنوب اليوم، هو، ولو بشكل جزئي، النتيجة المنطقية لأخطاء النظام السابق، كما يعني بنفس الضرورة أن القضية الجنوبية ليست مشكلة حلها الانفصال، فإذا كانت أخطاء النظام السابق، لا الوحدة، هي المشكلة، فإن تغيير النظام، لا الانفصال، هو الحل.
أياً كان الأمر، وبعيداً عن الشيطنة أو التقديس، الوحدة كالانفصال، خطوة سياسية، يُفترض أن تُقاس بشكل موضوعي، بمعيار خدمتها لمصلحة وطنية مؤكدة، وتعبيرها عن إرادة شعبية عامة.
على هذا الأساس، من الواضح أن وضع الحراك الجنوبي، وخيار الانفصال اليوم، لا تتوفر فيهما هذه المواصفات:
أولاً، لأن الحراك الجنوبي، على شعبيته العارمة، وأفضليته مقارنة بقوى أخرى متربصة بالجنوب والشمال، ليس الممثل الوحيد للجنوب، وهذه نقطة لا يمكن حسم الجدل حولها، بغير استفتاء شعبي دقيق على حق تقرير المصير، في ظل استقرار سياسي معقول، ورعاية وإشراف دولي.
ثانياً، يبدو الانفصال في السياقات العصيبة الحالية، رغبةً خارجية، أكثر منه مطلباً شعبياً جنوبياً، خاصة وأن تدافع النفوذ وصراع الأتباع، بين شركاء التحالف، السعودية والإمارات في الجنوب، أمر لا تخطئه العين.
ثالثاً، وهو الأهم، الانفصال – كما سبق القول – حل لمشكلة لا وجود لها، وما دامت الوحدة ليست هي المشكلة، فإن الانفصال ليس هو الحل.
أخيراً، ومجدداً: إن انفصالاً سياسياً لا يحقق مصلحة وطنية مؤكدة، ولا يعبر بأمانة ودقة عن رغبة شعبية عامة، ليس أكثر من مشكلة إضافية للمشهد اليمني المثخن بالتعقيدات.