الصباح اليمني_مساحة حرة
كان على هذا المقال أن يتناول دمشق ودروسها التي لا تنتهي، لكن الحدث الحلبي فرض نفسه. ولأن المسألة ليست مسألة دمشق أو حلب بما هما مدينتان، بل مسألة «سوريا وما آلت إليه»، فإنه لا بد من البدء بلحظة تكون بمنزلة لحظة البدء أو الخطيئة الأصلية التي آلت بنا إلى كل هذا الخراب. والخطيئة الأصلية، في رأيي، هي زاوية المقاربة التي تبنّاها النظام في سوريا عام 2011 في مواجهته الثورة ـــ نعم الثورة ـــ والتي أفضت إلى «معضلة اجتماعية» لا مخرج منها.
نحن هنا نتحدّث عن عام 2011 والحالة الاجتماعية التي تفجّرت في العالم العربي بأسره. الناس خرجت إلى الشوارع تعلن رفضها لواقعها، وتلعن ظلمة أيّامها. في تونس كما في مصر، وفي سوريا كما في ليبيا، كان بسطاء الناس يخرجون إلى الشوارع معلنين رفضهم نُظماً مهترئة. لم يُدرس حراك عام 2011 بما فيه الكفاية إلى اليوم. نعم هو كان ثورة وربيعاً ولم يكن خريفاً ولا شتاءً ولا حريقاً، كما درج على وصفه «كارهو التغيير والتفكير». الربيع العربي كان نتاجاً لديناميات من السياسات الفاشلة للدولة القطرية على مدى عقود. يكفي النظر في مؤشرات التعليم، الطبابة، الضمان الصحي (والأهم مؤشر الكرامة)، لنعرف واقع الحال البائس لشعوب يصح السؤال في حالتها: كيف صبرت على مثل هذه الأنظمة كل هذه السنين؟ (ملاحظة: درجت عادة التجهيل في أوساطنا بحديث الإعلاميين عن التعليم والطبابة والنقل الشبه مجاني في دول كسوريا، ومن قبلها العراق، لكن نظرة بسيطة إلى أرقام التعليم تفيد أن كوارث كانت قد حلّت بقطاعات التعليم والصحّة بسبب سياسات الخصخصة منذ أوائل التسعينيات، وهذا يحتاج إلى مقال مستقل).
على كل حال، لم تقرأ القيادة السورية الحراك في سوريا باعتباره نتاجاً لسياسات تنموية فاشلة وحصيلة طبيعية لسُعار أزمة الهوية التي اجتاحت منطقتنا منذ عام 2003 (بالأحرى لم تحب القيادة السورية قراءته على هذا النحو)، فراحت تبحث في دهاليز التفسير البوليسي عن طرف خيط المؤامرة. شخصياً، وإلى اليوم، لا زلت أبحث عن معنى علمي أو منطقي للمؤامرة. ما معنى المؤامرة؟ أنا أفهم أن هناك سياسات ودولاً تعادي بعضها البعض، فيما المؤامرة يمكن وصفها في غدر حليف بآخر (الانقلاب الحزبي يمكن أن يكون مؤامرة، أمّا عداء تركيا لسوريا، وأطماع العائلة الهاشمية في دمشق، والخلاف مع بغداد والعداء لتل أبيب، فتلك تسمّى سياسات دول وأنظمة تعادي بعضها البعض). وهكذا، دخلت سوريا، منذ عام 2011، في أتون التفسير البوليسي والتفسير البوليسي المضاد. عملت الأطراف كلها على الإيغال في التفسير الأمني للحدث، ثم في التفسير الغيبي له، والكل شحذ أسلحته الأيديولوجية للمواجهة. خطابات الجغرافيا السياسية وأنابيب الطاقة في شرق المتوسط من جهة (قال لي رجل شامي بسيط مرة: والله ما عارف أن مشكلتنا مع «الجزمة» وراها كل أنابيب هالغاز)، خطابات نهاية الزمان التي انفجرت على غاربها من جهة أخرى؛ واحد ينتظر معركة قرقيسيا، وآخر ينتظر الألوية الخضراء في الأموي، والشعب السوري يدور تائهاً حول نفسه في حفل هستيري قلّ نظيره في تاريخنا الحديث والغابر.
يُسجّل للنظام في تلك المرحلة نجاحه في جرّ المعارضة إلى العسكرة. ويُسجّل في تلك المرحلة غياب أي رؤية واضحة لمستقبل سوريا عند المعارضة المسلّحة (إلى اليوم لا يزال هذا الغياب بادياً). اعتمدت المعارضة على خطاب العدالة بكثير من الاختزالية (إذا حكمنا سوريا لن يكون هناك سلطة أمنية ولا سجون. تخيّلوا أحداً ناضجاً يفكر على هذا النحو الطفولي!) فيما غاب عن برنامجها أي إجابة بما يخص أسئلة القلق الهوياتي لدى الناس. هي لم تطمئن أهالي المدن، ولا الإثنيات، ولا الطوائف، وظلّت ثورة ريفية – سنية (بالمجمل). في المقابل، لم يجد النظام صعوبة في إزكاء مخاوف الأقليات بعدما ساعده خطاب المعارضة الكارثي وهوّن عليه الكثير أمنياً واجتماعياً («الشيعي بالتابوت والمسيحي ع بيروت» كمثال).
وبالمحصلة، دخلت سوريا في أتون حرب لا تنتهي. قتل وقتل مضاد، إبادات من كل الأنواع، «سقوط أخلاقي حر» للجميع دون استثناء، وأزمة تصوّر لليوم التالي. لا أحد من أطراف النزاع يمتلك تصوّراً لشكل النظام السياسي في سوريا بنهاية هذه الحرب. الحرب تعمّق من أزمة النظام والمعارضة على حد سواء وتزيد من استعصاء المشهد. والحصيلة بالنهاية: نصف مليون قتيل وأكثر من ثمانية ملايين مهجّر يفترشون بقاع الأرض في تيه لا أول له ولا آخِر، وفي نكبة لا يمكن لآدمي تصورها.
مرة جديدة يعود السؤال مراوداً: مَن يتحمّل المسؤولية عمّا آلت إليه سوريا؟ تتسابق الأطراف جميعها إلى رمي المسؤولية على الخصوم (كلٌّ يحمّل خصمه المسؤولية)، ولا أحد يريد الاعتراف بالخطيئة الأصلية، ولا حتى نقاش صلب المسألة أو المعضلة. لماذا لم تستطع سوريا إنتاج فضاء سياسي طبيعي و«ممارسة سياسية آدمية»؟ الجواب أن إقصاءً للفضاء السياسي لعقود، وتجفيفاً لمنابع العمل السياسي الطبيعي، هو ما أفضى بانفجار هذه الهوامش السياسية. والهوامش هذه ليست مجرد بيئات اجتماعية معدمة نمت على أطراف المدن، بل أفكار ورؤى سياسية هامشية تصدّرت الواجهة بعدما جُففت منابع العمل السياسي الطبيعي منذ عام 1958 في أقل تقدير. ما الحل؟ بدء نقاش هادئ في المسلمات، واستيعاب بعضنا البعض في ما نختلف فيه ونتوجّس منه، أقلّه، ومحاولة تفكيك المعضلة القائمة لكي لا تبقى شرايين سوريا مفتوحة على نزيف دام لا نهاية له. لكن، هل من سبيل للمضي بحل المعضلة السورية؟ أخشى أن الوقت قد فات، وأن دروساً لا تنتهي تخبرنا بها حلب ودمشق، لكن أحداً لا يريد التعلم منها.
المصدر : الأخبار اللبنانية
خليك معنا