الصباح اليمني_مساحة حرة|
إذا أراد أقرانه البحث عنه كانوا سيجدونه بين أغصان أشجار اللوز في قرية كوبر شمال غرب مدينة رام الله، ربما كان حينها يستعيد ذكرياته على تلال قريته أو يبحث عن ذاته، أو يعود حسين البرغوثي الطفل الذي أمضى طفولته وحيداً صامتاً مُنعزلاً عن العالم.
يفكّر ويفكّر ليكتشف أسرار الكون والوجود الإنساني، بعيداً من الضجيج والثرثرة والناس، الذين كان جلّ اهتمامهم الظاهِر من حسين وليس ما يُخبّئه في داخله. هذا الأمر الذي كان يزعجه حيث ينظر الناس إلى القشور غير مُهتّمين بالإنسان. حسين البرغوثي الإنسان الذي عاش حياته من داخله وفي داخله، بين أفكاره وذكرياته وأسئلته، ثم فلسفته الخاصة عن الحياة التي ترجمها في كتاباته التي أضفت طابعاً إنسانياً عميقاً على الثقافة والكتابة الفلسطينية.
لحسين البرغوثي (1954-2002)، الأديب والشاعر والمُفكّر الفلسطيني، ما يزيد عن 16 عملاً أدبياً بين شعر ورواية وسيرة ونقد، فضلاً عن الأبحاث، حيث ساهم في وضع العديد من السيناريوهات لأفلامٍ سينمائية، وأعمال مسرحية وكذلك كتابة الأغاني الشعبيّة.
وتعدّ سيرته “الضوء الأزرق” و”سأكون بين اللوز” أبرز ما قدَّمه البرغوثي خلال مسيرته، أحدث من خلالها جهداً وتحوّلاً ملحوظاً في الثقافة الفلسطينية، مُعلناً بداية أسلوب حديث في الكتابة.
المكان كمصيدة
يمكن القول إن علاقة حسين البرغوثي بالأماكن فريدة، كعلاقته بالناس والمحيط والعالم. الأماكن التي أحبّها تشبهه، فهي مُميَّزة وبسيطة تحمل الكثير داخل جدرانها وأزقّتها وشوارعها. جذبته المدن الهادئة فأمضى فترة من حياته في سياتل الأميركية، بدلاً من العيش في واشنطن، مدينة الضجيج والحياة السريعة المُتْخَمة بالناس. هرب إلى المدن الصغيرة التي يستطيع المشي فيها لساعات من دون الحديث مع أحد. ترك المدن الكبرى ليعود إلى نفسه وليرتّب فوضاه الداخلية، ويفكّر أكثر في دواخل وحقيقة نفسه، هو الذي عاش حياته داخل رأسه، هادئ من الخارج وثائر من الداخل.
بالنسبة إلى البرغوثي فإن “الإنسان هو القضية كما قال كنفاني، والإنسان ليس في الكتب..هو في البارات والمناجم والشوارع”. وخلال رحلته في “البحث عن نفسه”، وجد روحه في المقاهي والحانات البسيطة بين “الصعاليك والمشبهوين بالجنون والشواذ”. كان يقضي الكثير من الوقت مُتتبّعاً حركات وهَمَسات وكلام هؤلاء. يبحث في مسامراتهم وأحاديثهم عن إجابات لأسئلة تدور في رأسه. ينظر من خلالهم إلى حاله التي كان يصفها قائلاً “من الخارج كنت مرحاً واثقاً من نفسي وأفيض بالحياة، أدّعي ذلك أو أتظاهر به، ولا أدري أين الفصل بين الإنسان وبين ما يدّعيه عن نفسه أو يتظاهر به”. هذا الحزن الكامِن فيه كان يحتاج إلى حزن أعمق تجلّى في “سينامتك الوَهم العظيم” و”حانة القمر الأزرق” و”مقهى المخرج الأخير” التي اتّسمت بالعوَز واليأس الذي جذب البرغوثي لاكتشافه، فضلاً عن أسماء تلك الأماكن التي وجدها ساحرة.
يقف حائراً يراقب الاحتلال في سيرته “سأكون بين اللوز”، ويسأل نفسه “ماذا يرى مستعمر جاء من روسيا أو أستونيا، ربما قبل سنة فقط، حين يفتح شبّاكه ويُحدّق في نفس هذه الجبال التي أنا فيها الآن؟ ماذا يرى، أو يدرك، من هذه الجبال التي تسبح في تاريخها وتبزغ منه؟”، يفكّر في علاقة المحتل بأرضٍ ليست مِلكه، ويقارن بينها وبين علاقة أصحاب الأرض الذين سكنوها آلاف السنين. هذا المكان كوبر، في رام الله، في فلسطين، هو فقط مَن تربطه فيها ذاكرة وجذور.
تربط البرغوثي بقريته كوبر التي عاش فيها فترة من طفولته علاقة شديدة الحساسية، انعكست على شخصيّته ونظرته للعالم ولنفسه وللناس، حسين الطفل الجبلي، المتمرّد الذي يخاف البحر ويهابه، الذي بحث عن توازنه، جبل يحتاج إلى البحر ليهدّئه ويشفيه، ظلّ حلم البحر يرواده. يريد أن يتوحّد الجبل الذي في داخله مع البحر، وأن يتّسع مع البحر، يبكي ويبكي، يخرج من نوبة بكاء إلى أخرى، لقد اغتصب العالم قلبه، فقال له “بري” صديقه ومعلّمه الذي أشعل النور في داخله، والذي كان من أبطال سيرته (الضوء الأزرق) “دموعك آخر شكل للفيضانات: الآن البحر يرشح منك على هيئة دمع، تعارف طفل الجبل الذي فيك والبحر الذي فيك، وصرتما واحداً، واتسعت، فطوبى لمَن يتسعون”.
لون الغربة، والغيب، وسماء الطفولة
“الضوء الأزرق” هو الإسم الذي اختاره حسين البرغوثي عنواناً لسيرته الذاتية، التي كتبها بشاعريّة مُفرطة وبأسلوب نثري مُلهِم، دفع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش للتعليق على سيرته قائلاً “إنه كتاب فريد من نوعه في الكتابة العربية، ولعلّه أجمل إنجازات النثر في الأدب الفلسطيني”، هذا الكتاب الذي جمع فيه البرغوثي مختلف الأشكال الكتابية بين الرواية والسرد والشعر، نصّ حمل همومه الوجودية وفلسفته الخاصة، وتأمّلاته الواقعية والمجنونة، كما تضمّن روحانية كشفت عن جانب حسين البرغوثي المتصوّف. كان الكتاب خليطاً غريباً باح فيه الكاتب عما يدور في مخيّلته ويُثير تفكيره، باحثاً عن إجابات في الشوارع والمقاهي والحانات والقرية، وداخل الكاتب نفسه.
ترى ما الذي يعنيه اللون الأزرق بالنسبة إلى كاتبنا؟ لا يتركك حسين البرغوثي تفكّر كثيراً. يجيبك في الصفحات الأولى من سيرته، فيقول إن الأزرق هو “لون النفس الأمّارة بالسوء” بحسب الطائفة الصوفية النقشبندية، أما في بوذية (التيبت) فإن “الأزرق لون طاقة الخلق فينا”، ويحكي البرغوثي أن اهتمامه باللون الأزرق رافقه منذ الطفولة، فكان يرى الكثير مما يحيط به مطلياً باللون الأزرق كالصخور والوادي، ويقول “عندي، الأزرق لون الغربة، والغيب، وسماء الطفولة”. ويروي أيضاً أنه في مرة ألّف لحناً ساحراً، أحبّه بشدّة ولم يعرف سرّ هذا اللحن، حتى قرأ أن لكل نوتة موسيقية لوناً خاصاً بها، وعندما بحث عن لون النوتة التي سحرته وجده أزرق. شغف الكاتب بالأزرق دفعه للبحث عن معناه في الأساطير والحكايات القديمة، ويكشف من خلال شغفه بهذا اللون عن الجانب السيّىء من شخصيته فيقول “ربما أن لنواياي السيّئة لوناً أزرق”.
أحد لن ينسى صديق حسين البرغوثي ومعلّمه الصوفي “بري” بعد الانتهاء من قراءة “الضوء الأزرق”. شخصية “بري” الحكيمة والمجنونة على حد سواء، جعلت البرغوثي مُتعطّشاً لمعرفتها بعمق. فوصايا هذا المعلّم ونظرته إلى الوجود كانت لغزاً شغل كاتبنا طويلاً فسعى إلى فَهْمه. وكذلك شخصية “بري” الساخِرة وسوداوية المشهد، كانا يثيران فضول البرغوثي. علاقة الرجلين أضاءت في عقل البرغوثي ونفسه العالم الذي يعوم في داخله، وجعلته يُحدِّق في داخله ويكتشف ما يخبّئه هناك، عملاً بمبدأ “بري” بأن الحياة تبدأ وتنتهي داخل كل منا.
“إن زرتني سأكون بين اللوز”
بعد ثلاثين عاماً من الغياب عن قريته كوبر، يعود حسين البرغوثي زهرة تبحث عن شجرة اللوز التي سقطت منها منذ زمن وراحت تطوف في العالم غريبة ومُغتربة عن وطنها وجذورها. يرجع إلى الجمال قائلاً “أعود للسكن في ريف رام الله، إلى هذا الجمال الذي تمّت خيانته”.
ويروي في سيرته “سأكون بين اللوز” أيامه الأخيرة بعد أن تمكّن السرطان منه، يحكي لنا أوقاته في مستشفى رام الله، التي كان يشعر فيها أنه “خارج السياق” بين جرحى الانتفاضة فيشعر بأنه ” لفظة حائِرة بين قاموسي الموتى والأحياء”، كما يحدّثنا عن تأمّلاته في البدايات والنهايات في “الدير الجواني” القديم في كوبر.
“كنت المسافة بين سقوط المطر وانبعاث الزهور على تلّة تخضّر تحت قوس قزح.. سوف أخرج من داخل الأرض في الليل كفّاً رخامية تحمل القمر الجديد قدح.. فاغتسلوا في النهور.. وانتظروا لحظتي”.
رنــــــا زيـــدان:
خليك معنا