الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
تعتبر حركة النقل والترجمة جسر من التواصل الفكري والثقافي بين الحضارات المختلفة، فقامت الحضارة الإسلامية بترجمة مختلف المؤلفات اليونانية ونقلها إلى لغات أخرى تساهم في نهضة الحضارة الإنسانية وكان هناك دوافع عديدة دعت إلى حركة النقل والترجمة منها إقبال أهل الذمة على الدخول في الإسلام وحاجتهم إلى المنطق اليوناني لاستخدامه كسلاح في مواجهة المخالفين للدين الإسلامي من اليهود والنصارى وظهور فرق كلامية كان لها الأثر في إلتقاء الثقافة ولعبت الترجمة دورًا بارزًا في إلتقاء الثقافة العربية بالثقافات الفارسية واليونانية والهندية.
وكان للخلفاء العباسيين دورا هاما في الحضارة الإنسانية وبخاصة عملية النقل والترجمة فقاموا بترجمة العديد من المؤلفات مثل كتب الطب والتنجيم والفلسفة وأقبل المسلمون على تحصيل العلم النافع وذلك من خلال تعاليم القرآن الكريم فأنفتحوا على ثقافات الشعوب المختلفة وأخذوا ما يناسب تعاليم الدين الإسلامي وكانت للترجمة دورا مهما في إرتقاء الفكر الإنساني بوجه عام والحضارة الإسلامية بوجه خاص وكانت بداية لحركة علمية واسعة تربط بين ثقافات الشعوب الشرقية وثقافات الشعوب الغربية.
وعملت حركة الترجمة على إزدهارات مهمة عديدة مثل مهنة الوراقة والوراقون الذين اخذوا ينسخون الكتب المترجمة لعدد من الناس وتعد حركة النقل خطوة حضارية في بناء حضارات فكرية مختلفة تحقق المعادلة التاريخية بين الثقافات العالمية الكبيرة على أساس التفاعل المتبادل بين الحضارات وكان للترجمة كلمة انطلقت من أول كلمة في القرآن الكريم التي شملت على أوسع المعاني والدلالات الحضارية والعلمية.
ومرت الترجمة بعدة مراحل في العصر العباسي وكانت أهم هذه المراحل هي وصول المأمون إلى الحكم عام 198م فأهتم الخليفة المأمون بحركة الترجمة وكان يعطي المترجمين أموالا كثيرة وكانت هناك مراكز كبيرة لحركة الترجمة التي كان لها الأثر في الحضارة العربية الإسلامية.
وأعتنت هذه المراكز بترجمة الكتب في علم الفلك والرياضيات والفلسفة، ومن أهم هذه المراكز الإسكندرية وأنطاكية والرها وكانت هذه المراكز عبارة عن معابر عبرت من خلالها الثقافات الوافدة وتفاعلت مع الثقافة الإسلامية العربية عن طريق الحركة العلمية وكان هناك عدد كبير من المترجمين مثل عبد الله بن المقفع ويوحنا بن ماسويه وغيرهم قاموا بترجمة عدد كبير من المؤلفات العلمية في كافة المجالات وكانت للترجمة آثارا واضحة على الثقافة العربية، نجد أثرا للثقافة الفارسية في اللغة العربية وأيضا ً في الآداب ونظم الحكم وأدوات الزينة وأنواع المأكل والملبس وآلات الغناء وكانت الثقافة الفارسية عنصر قوي الأثر في العصر العباسي وأيضا نجد أثر الثقافة الهندية في الحضارة العربية مثل نظريات الهنود في الحساب والهندسة وكان لحركة الترجمة نتائج مثل إرتقاء الثقافة الإسلامية عن باقي الحضارات.
وهناك عدة عوامل دعت العرب إلى حركة النقل والترجمة منها:
1- إقبال أهل الذمة على الدخول في الدين الإسلامي وضرورة اللغة العربية عند أمثالهم لإتقان القرآن والفرائض الدينية، فدعت الحاجة إلى تمهيد السبل أمام هؤلاء الأعاجم إلى إمتلاك النواحي المعنوية في العربية والتضلع في متنها الزاخر بالمفردات مما جعل معجم الخليل بن أحمد الفراهيدي أساسا لنشأة المعجم العربي وتطوره ثم قام سيبويه الفارسي بوضع علم النحو [1] بصورة نظامية أستمرت كذلك عبر الأجيال[2].
2- بعد نجاح حركة الفتح الإسلامي للمسلمين وانعدام التوازن بين قوتهم المادية والعسكرية والسياسية وبين واقعهم الحضاري، فراحوا يعملون على إحلال التوازن بإحتضانهم للعلم اليوناني والعلوم الأخرى وبالنقل من تلك العلوم كلها[3].
3- حاجتهم إلى المنطق اليوناني والفلسفة [4] لإستخدامها كسلاح في مواجهة المخالفين والمنكرين لدينهم الإسلامي من يهود ونصارى وزرنادقة وملحدين[5].
4- ظهور الفرق الإسلامية ومذاهبها فكان لها أثر كبير في توسع الثقافة في البلاد المفتوحة حيث ألتقت الثقافة العربية بالثقافات الفارسية واليونانية والهندية[6].
5- توسعت الدولة الإسلامية نتيجة الفتوحات التي قام بها العرب وظهرت الحاجة الماسة إلى علوم لم تكن موجودة عندهم كالعلوم الرياضية والطب والفلك لضبط أوقات الصلاة وتعيين أشهر الصوم والحج[7].
6- اهتمام الخلفاء بالنقل والترجمة والسخاء في الدفع للناقلين وعقدهم المجالس والمناظرات العلمية مثل الخليفة العباسي المأمون.
7- إنتقال الخلافة من دمشق حيث كانت عاصمة الدولة الأموية إلى بغداد وفيها تأسست الدولة العباسية وكانت الثقافة الفارسية طاغية على العلوم وهي ثقافة تتمتع بميزة العرافة في الحضارة[8].
8- احتكاك العرب المسلمين بالعناصر المثقفة في البلاد المفتوحة مما ايقظ عقولهم ونسبة أذهانهم وأعدهم لإلتماس العلوم الجديدة ونقل كتبها إلى لغتهم العربية[9].
9- العلم يدعو إلى العلم، فزيادة الرخاء وتوفر الأموال اشعرت الخلفاء بضرورة تقدم العمران وتوسيعه، فبنوا الجسور والسدود وشقوا الطرقات ورفعوا الصروح، مما جعلهم يحتاجون إلى علم الهندسة فأمر الخلفاء بترجمة كتبها عن اليونانية وشجعوا علماءها وأغدقوا عليهم الأموال[10].
10- إتصال العرب بأمم مختلفة وأطلاعهم على ثقافات وعلوم جديدة، فأتجهت نفوسهم إلى الحياة الفكرية والفنية الجديدة وأحبوا أن يوسعوا آفاقهم في هذه المجالات الجديدة[11].
11- سيادة اللغة العربية نتيجة النفوذ السياسي العربي، مما جعلها لغة عالمية أستدعى نقل العلوم إليها خاصة وأنها لغة الدولة ولغة الدين وإحدى مكونات الحضارة الإسلامية وهي لغة القرآن الكريم وأيضا جسر التواصل مع اللغات الأخرى.
12- التنافس بين العرب والشعوبيين كان أيضا من العوامل المهمة وراء حركة الترجمة، فالعرب متباهون بقوتهم العسكرية وأمجادهم الشعرية والأدبية فخورون بدينهم الجديد وبمعجزته القرآنيه وبنبيهم العربي الأمين محمد (صلى الله عليه وسلم)، كما كان لباقي الشعوب خاصة الفرس حضاراتهم وثقافاتهم وآدابهم التي راحوا يتباهون بها فترجموا بعض آثارهم إثباتا لوجودهم ولرقيهم الحضاري، وربما محاربة لدين الإسلام الذي جعل من العرب سادة عليهم وسادة على العالم القديم[12].
13- اهتمام الخلفاء العباسيين بترجمة كتب الطب والتنجيم، وذلك للحاجة الماسة إلى هذين العلمين حيث كان البعض منهم بحاجة إليهما، فالخليفة المنصور كان مصابا بمعدته، بالإضافة إلى اعتقاده بعلم التنجيم وعلاقة النجوم بحياة الإنسان ومصيره، فأستقدم الأطباء والمنجمين وأصبح الطب والتنجيم من العلوم التي تعتني بها الدولة وتدار من قبل رجال وأخذ معظم الخلفاء الآخرين أطباء ومنجمين لهم لهذا الغرض[13].
14- كان الإسلام قد أستتب في هذه البلاد وأقبل أبناء تلك الأمم على الإسلام يعتنقونه واللغة العربية يتعلمونها وأختلط العرب بتلك الشعوب وأندمجوا جميعا في أمة واحدة وتلك الأمم أنضوت تحت لواء الإسلام، ولقد وجد المسلمون أنفسهم ورثة للعديد من الحضارات القديمة مثل الهلينية والفارسية واليونانية[14].
15- إن العرب قد وجدوا في بلاد فارس وسوريا ومصر حينما أستولوا عليها خزائن من العلوم اليونانية، فأمروا بنقل ما في اللغة السريانية منها إلى اللغة العربية ثم أمروا بأن ينقل إليها من اللغة اليونانية ما لم يكن قد نقل إلى اللغة السريانية فأخذت دراسات العلوم والأدب تسير قدما نحو الرقي، ولم يكتف العرب بما نقل إلى لغتهم فقد تعلم عدد غير قليل منهم اللغة اليونانية ليستبقوا منها علوم اليونان، وقد كانت معارف اليونانية واللاتينية القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب، ولكن المفطورين على قوة الإبداع لم يكتفوا بحال الطالب ولم يلبثوا أن تحرروا بما عرف عنهم من النشاط حتى عاد الإغريق وهم ليسوا أساتذة العرب[15].
16- حركة تعريب الدواويين في الدولة الإسلامية، فهذه الحركة كانت تتمه ترجمة العلوم في عهد الأمويين وكانت حركة الترجمة بسيطة وفردية فلما جاء العباسيون وانتقل مركز الثقل السياسي والثقافي إلى بغداد أصبحت الترجمة عمل أمة أو مدرسة كبيرة لا يغيرها موت فرد أو أفراد منها والتعمق في تعريب العلوم في العصر العباسي يرجع أساسا إلى أن المسلمون أوغلوا في الحضارة وهي تستند إلى العلم فألتمسوه عند اهله من أصحاب الحضارات الأخرى[16].
17- أقبل المسلمون على تحصيل العلم النافع من تعاليم دينهم الحنيف ولم يدخروا وسعا في الإنفتاح على ثقافات الأمم التي شملها الإسلام والتفاعل معها والإفادة من علومها وفنونها ومناهجها فالحكمة في عرف الإسلام ضالة المؤمن عليه أن يلتقطها أو يقتنصها أنى وجدها، وفي ظل هذا المبدأ الإسلامي لم يجد المسلمون حرجا من الإستعانة بعلماء وفلاسفة ومثقفين مسيحيين وصابئة في ترجمة ونقل علوم الأمم الأخرى إلى اللغة العربية[17].
أتاحت لعلماء العصرين الوسيط والحديث إستكمال وإبداع ما قدموا للعالم من إختراعات وإبتكارات وتطورات علمية في شتى الميادين، فقد عرف الغربيون هذه الترجمات اللاتينية وغيرها من اللغات[25].
8- إن حركة الترجمة كانت خطوة حضارية تبدأ في النهوض إنما تبنى علمها على علم من سبقها فالحضارة صرح كل أمة تضع فيه لبنة أو هي دائرة متصلة الحلقات ولقد قامت الأمة الإسلامية بدورها فمنحت الحضارة الإنسانية زهرة يانعة[26].
9- تعمل حركة الترجمة على تحقيق المعادلة التاريخية التي تحكم العلاقة السوية بين الثقافات العالمية الكبرى على أساس التفاعل المتبادل من جهة مع الاحتفاظ بالخصوصيات والتمايز من جهة أخرى، ذلك أن الترجمة تمثل إحدى صور هذا التفاعل المتبادل بين الحضارات وأن الثقافة الإنسانية ذات موارد متعددة بين شرقية وغربية وأن تبقى كل حضارة على طابعها ومقوماتها التي تنفرد بها[27].
10- إن حركة الترجمة عملت على تطوير حضارة عربية راقية عن طريق تفاعل الفكر القديم، ولا تقتصر به الفكر اليوناني فحسب وإنما الفكر الهندي والفارسي وتراث ما بين النهرين القديم مقترنة بالذهبية العربية المتفتحة بواسطة أشخاص متضلعين بعدة لغات ومحتكين بأكثر من حضارة[28].
11- عملت الترجمة على تطور الأدب العربي بما دخل عليه من تعابير وأفكار وخصائص ومعاني جديدة والإضافة إلى تسرب عدد من المجازات الشعرية والأدبية والإستفادة من المقاييس والمدارك الأجنبية في معالجة عدد من العلوم الشرعية واللغوية[29].
12- إن حركة الترجمة الإسلامية كانت عبقرية بحركها حس حضاري فائق الحساسية مما جعل حركة الترجمة لا تقوم على العشوائية وإنما قامت على الإنتقاء العبقري للموضوعات التي لم تستنفذ إمكانيات البحث والإبتكار مثل ذلك إتجاههم إلى الحساب الهندي من بين جميع أنماط الترقيم التي كانت متاحة أمامهم ثم إختيار العناصر الثقافية التي ليس فيها باع طويل فلم يقوموا مثلا بترجمة أدب أو شعر اليونان أو اللاتين والذي بلغ حد الكمال وذلك أن لهم في الشعر والأدب باع طويل[30].
13- إن المسلمين لم يتعاملوا مع هذه المترجمات بطريقة حرفية جامدة، بل سرعان ما قاموا بتفعيلها في إطار نظامهم الثقافي والتعليمي وقد نقلوا المسلمون وترجموا كثيرا من التراث العلمي للأمم الأخرى، فإنهم لم يلبثوا أن أعتمدوا على أنفسهم وعلى المناهج العلمية التي ابتكروها فأفتتحوا المدارس والمعاهد والجامعات وألفوا الكتب والمراجع والأبحاث وأقاموا المراصد والمشافي والمختبرات يدفعهم إلى ذلك نشاط وثاب وهمة عالية[31].
14- الترجمة هي همزة الوصل بين الثقافات والجسر الواصل بين الحضارات والنافذة المفتوحة على تاريخ الشعوب بها تعرف المواطن العبقرية والإبداع وتكتشف خصائصها ومميزاتها والترجمة تزيل حواجز الخطأ والوهم التي تمنعها من تبادل الفهم الصحيح والعطاء النافع[32].
15- عملت الترجمة على تغير نطاق الجدل الديني البحث إلى الإهتمام بالأبحاث العلمية والفلسفة فأخذ العلماء يترجمون رغبة في العلم والدراسة بدلا من المال أو المنصب ثم بدأت مرحلة التأليف[33].
16- أضفت الفلسفة اليونانية ضوءا جديدا على كافة أوجه الحياة الإسلامية من دينية ولغوية وإجتماعية وفلسفية[34].
17- إن ثورة الترجمة كانت أمرا حتميا وضروريا أن تصدر من أمة القرآن الكريم التي كانت أول كلمة فيه هي ” إقرأ ” على أوسع المعاني والدلالات الحضارية عامة والعلمية خاصة[35].
18- عملت حركة الترجمة على التنافس الحضاري بين بغداد حاضرة العباسيين المزدهرة والقسطنطينية حاضرة البيزنطيين ذات التاريخ والحضارة العريقة ومن المفترض أن خلفاء بني العباس أرادوا أن يكون لعاصمتهم الجديدة العمق الحضاري المنافس للدولة البيزنطية من خلال حركة الترجمة واسعة النطاق[36].
خليك معناالمصدر: ملتقى المؤرخين اليمنيين