ربما يمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تبعه من مواثيق واتفاقيات ومعاهدات دولية وقوانين عالمية ومحلية، القفزة الأكبر في تطور الإنسانية باتجاه الإنسان ذاته؛ حيث تمثل مواده الثلاثين بتكثيفها روح الإنسانية وعمودها. وحين نقرأ تلك المواد، ونقارنها بالحالة العربية التي نعيشها، نستكشف كم أن هذه المنطقة من العالم تخلو من الحقوق؛ حيث يصبح الإنسان لا يملك أي حق حتى حقه الأساسي في الحياة.
إن المراجع لسير تطور المجتمعات حول العالم ربما يجد أن حالة تطور حقوق الإنسان باتجاه الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة والحق في الحياة والتنقل والتعليم والتعبير وغير ذلك من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد سارت بخطى تدريجية، وأن قوانين مثل قوانين المساواة بين الذكر والأنثى تُعدّ من أحدث القوانين في بعض الدول الأوروبية، في حين عرفت مصر قوانين مشابهة في أربعينات القرن الماضي، إلا أن الفارق أن تطور حالة حقوق الإنسان في دول العالم يسير باتجاه تجسيد المبادئ الأساسية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في حين تعمل الدول العربية على العكس؛ إذ تسير باتجاه مختلف لتفريغ هذه المواد من مضمونها.
بدءاً من الحق في الحياة الذي هو على رأس الحق الإنساني، لم يعد المواطن في بعض الدول العربية ينادي بحقه في حياة كريمة، ولكنه يسعى إلى حقه في أن يظل متمسكاً بحياته؛ فقد أصبح مهدداً في وجوده. وإلى الحريات السياسية، فلا توجد ديمقراطية تضمن للمواطن الحق في المشاركة في الحكم أو حتى في أن يختار من يمثله أو يراه الأصلح للمسؤولية، وبدلاً من وجود ديمقراطيات شكلية في بعض الدول تحول الأمر إلى دكتاتوريات علنية وصريحة وبلا مواربة، ودول أخرى تسعى إلى تكريس الإستبداد والصوت الواحد ومصادرة الآراء وكبت الحريات وإلغاء الأحزاب والكيانات السياسية.
وفي حين تسعى الدول الحديثة إلى تحسين قوانينها وصياغة قوانين تتوافق مع روح العالم الحديث قائمة على المساواة بين الأفراد بغض النظر عن جنسهم أو شكلهم أو دينهم أو ميولهم أو عرقهم، تتشظى الشعوب داخل الدول، ويتم التمييز بين أفرادها على أسس جديدة، وأصبح الأمر ليس صياغة قوانين تزيل الفوارق والتمييز، بل البحث عن خصائص جديدة وأسس لم تكن معروفة من قبل لفرز الناس على أساسها؛ فتم تكريس الفوارق الدينية والمذهبية والعرقية والجهوية، ناهيك عن التمييز الحاصل بقوة بين الذكر والأنثى، والذي ينعكس على مختلف جوانب حياة المرأة في هذه البلدان.
ربما تُعدّ القفزة الإعلامية أهم ما كان يفاخر به النظام الحاكم في البلدان العربية، والتباهي بوجود شكل من أشكال حرية التعبير، على الرغم من أن كل هذا التمظهر كان خارج إرادة هذه السلطة أو تلك؛ بوصف الإنفتاح الإعلامي جاء بقوة انفتاح الفضاءات أمام الجميع. ومع ذلك، لم تستمر هذه الطفرة كثيراً، فضاق صدر الأنظمة فأغلقت القنوات وحبست الصحافيين وغيبتهم قتلاً أو سجناً وحظرت المواقع الإلكترونية، وربما تكون البلدان العربية حالياً من أسوأ الأماكن حول العالم في ما يتعلق بالحريات الإعلامية.
نتساءل هنا عن أي من هذه الحقوق هو الأصل الذي يمكن لبقية الحقوق أن تُبنى عليه؟ لا يعني هذا أن هناك حقوقاً أهم من الأخرى؛ فأهم خصائص حقوق الإنسان أنها شاملة ومتكاملة ولا تنفصل عن بعضها، بيد أن الأمر يتعلق بأن هناك من الحقوق ما يجعل النكوص عنه مستحيلاً؛ نظراً لثبات الحق الذي قبله والذي لا يقبل التراجع. وهذا التساؤل يمكن أن يجيب عنه خبراء السياسة في العالم العربي القادرين على تحليل الأولويات وتثبيتها، من أجل الوصول إلى كامل الحقوق المنتهكة في هذه الزاوية المنسية من الإنسانية في العالم.