الصباح اليمني_مساحة حرة|
كيف تكون الثورة بلا قيادة؟ ربما كان هذا السؤال ليؤرِق ثوريي القرن العشرين الذين تحرّكوا بأمرٍ من قيادات مُلهمة؛ تقدّر الموقف، وتحفّز الجماهير، وتبتكر تكتيكات المواجهة، وتواجه الثورات المُضادّة بخططٍ مَرنة.
الأمر كان مُغايراً لثوريي أوروبا الشرقية والشرق الأوسط في قرننا الجديد. هؤلاء أعربوا عن عدم حاجتهم إلى قيادة منظمة تملي عليهم قواعد الفعل وتلزمهم بنموذج مُحدَّد للمستقبل.
الشعب بفلاحيه وعمّاله وطلبته وفئاته سيقتلعون النظام ويبنون آخر.. بهذا آمنوا، ولذا لن تكون القيادة برأيهم إلا سلطة أخرى من السلطات التي نهضوا لكسرها.
لكن ماذا عن المكاسب؟ وكيف نسمّي حدثاً بالثورة ما لم يُغيّر قواعد السياسة ويستبدل النُظُم القديمة بالجديدة؟
كان يمكن للثورات العربية أن تبدأ بشكلٍ آخر أو أن تصل إلى نهاياتٍ أفضل لو كان على رأسها رجال كاريزماتيون نظَّموا صفوفهم وانطلقوا إلى الثورة برؤيةٍ واضحة.
في روسيا، عام 1917، وصلت القوات البلشفية الحمراء بزعامة فلاديمير لينين إلى المرافق العامة وأطاحت الحكومة المؤقّتة.
في كوبا، عام 1959، وصلت الثورة بيخت غرانما الذي حمل 82 رجلاً (بينهم: تشي جيفارا، فيديل كاسترو، راؤول كاسترو) من المكسيك إلى هافانا لإسقاط حُكم باتيستا.
في إيران، عام 1979، وصل روح الله الخميني بالطائرة عائداً من منفاه ليُسقِط ما تبقّى من نظام الشاه. لكن أية نهايات لثورات بلا قيادة؟
يُجادِل الباحث آصف بيّات في كتابه “ثورة بلا ثوّار: مسعى لفَهْم الربيع العربي” بقوله إن الثورات العربية لم تكن ثورات بالمعنى العلمي للمصطلح بل هي أقرب لأن تكون ثورات إصلاحية، بمعنى أنها لم تنقلب جذرياً على النظام القائم ولم تقطع مع نموذج الحُكم القديم الذي خرجت الجماهير للمطالبة بإسقاطه، حيث فضّلت حركات التغيير في العالم العربي التطبّع بالنظام القائم والانتقال من خطاب مُعاد للإمبريالية والرأسمالية مثلاً، إلى خطاب يطمح إلى الإصلاح داخل النظام القائم.
لقد تعثّرت “ثورات الربيع العربي” بسبب افتقادها إلى برنامج واضح ومشروع سياسي يُعيد بناء الدولة وفقاً لرؤية ثورية جديدة، وهي بخلاف الثورات المعروفة في كوبا وفيتنام والصين وروسيا وإيران، كانت تفتقد إلى نظرية سياسية (الاشتراكية، الدولة الإسلامية) وتبتعد عن الانتظام في أطر وهيكليات (نقابات، أحزاب، اتحادات) بل تسعى إلى اللاانتظام في نزوع نحو نوع من الأناركية، وتميل إلى تبنّي خيارات سياسية سائِلة غير راديكالية.
هناك أسئلة مهمّة تحضرنا الآن: لماذا تراجع دور الأحزاب لصالح تجمّعات شبابية وناشطين يُحرّكون الجماهير ويتحدّثون بإسمهم؟ ولماذا يفكّر الشباب اليوم بإنشاء قناة على “يوتيوب” أو صفحة على “فيسبوك” للتعبير عن مطالبهم بدلاً من إنشاء حركة أو تيّار أو حزب؟ وإن كان دونالد ترامب قد أتى إلى رئاسة الامبراطورية من تلفزيون الواقع، فيما نجح فلاديمير زيلينسكي في الانتقال من المسلسل الكوميدي “خادم الشعب” إلى الرئاسة الأوكرانية مباشرة، فهل يصبح التساؤل عن تراجُع السياسات والزعامات والتنظيمات السياسية التقليدية في العالم العربي مُمكناً من دون مُراعاة السياق السياسي العالمي؟
علينا أن ننطلق بداية من الإقرار بتراجُع الأيديولوجيات والنظريات الاقتصادية الثورية أمام الرأسمالية التي اكتسحت بلداناً كانت في ما سبق تُعدّ قلاعاُ للاشتراكية وموطناً لمُناهضي الإمبريالية ودُعاة التحرّر من الاستعمار (روسيا، الصين، فيتنام..)، وهيمنة نوع من اليأس من إمكانية تغيير النظام الاقتصادي القائم والاستعاضة عن ذلك بإمكانية تبنّي “رأسمالية عادِلة” وإصلاح النظام السياسي ليكون أكثر ديمقراطية.
إذا أخذ “التغيريون العرب” بخيار التغيير تحت سقف سياسي واقتصادي مُحدَّد، وهذا ما عرقل نشوء أحزاب أو تيارات ثورية جديدة ما دامت الطموحات هي مُجرَّد طموحات إصلاحية تهدف إلى إصلاح النظام من داخل النظام، وهو ما لن يُرضي الشباب المُتحمّسين للإطاحة كلياً بالنظام وإن كانوا يفتقدون لبديل معروف.
ولأن البديل غير معروف أو مطروح بشكلٍ واضحٍ على الأقل، والتنظيمات السياسية الثورية (سواء كان أعضاؤها منفيين أو مُتستّرين إلا أنهم مستعدّون) غير مُتحقّقة، وجدت الشعوب نفسها قائدة للثورات، يساعدها في ذلك توسّع في المجال العام الذي يسمح بطرح أفكار وشعارات ومقولات لم يكن من المسموح طرحها في ما سبق. فالقنوات الفضائية العابِرة للقومية، ووسائل التواصُل الاجتماعي، والاجتماع في الساحات العامة كانت أبرز ما ساعد في خلق مجال يمكن للشعب الاجتماع فيه بصفته شعباً لا أفراد مُتفرّقين.
لقد شهد المجال العام توسّعاً في البلاد العربية نتيجة ثوراتها أكثر مما شهدت هذه البلاد تحوّلات في مجالات أخرى كالمجال السياسي والمجال الاقتصادي.
وفيما لعب الإنترنت دوراً بارزاً في تداول أخبار الثورات وحثّ المواطنين على المشاركة فيها، فإن دوره الأساس كان في تعميق المجال العام العربي لا في إحداث تحوّل في البُنى السياسية كما يظنّ البعض، وهذا بالتحديد ما عبَّر عنه الباحِث السياسي الأميركي مارك لينش بقوله: “ومن المُرجّح أيضاً أن يعمل الإنترنت عن طريق تعميق أثر المجالات العامة العربية بدلاً من إحداث تغيير في بنية الدولة العربية مباشرة” (شرح أسباب الربيع العربي، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2016).
أما القول بأن اللاانتظام ساهم في إشعال الثورات واستمرارها وعثّر مساعي الحكومات في إخمادها هو قول مصيب، حيث من السهل على الأجهزة الأمنية المُتخصّصة بقمع التمرّدات أن تصل إلى المُدبّرين والمؤسّسين للثورات إن كانوا معروفين ومنظّمين. لكن هذا اللاانتظام أثّر سلباً على مصير هذه الثورات وجعلها تنحدر إلى الضياع والتشوش والتضارب. مَن يتحدّث بإسم الجماهير؟ ما هي المطالب؟ وكيف ستُدار الثورة في اللحظات المصيرية؟
هذه تحديات كبرى أمام “الثورات الشبكية” أو غير الهَرَمية، فبُنى الشبكات التي لا يتزعمها أحد قد تتوّحد على مطلب واحد مثل: إسقاط النظام، رحيل الرئيس، انتخابات مُبكِرَة، لكنها وكما يُحاجِج ليتش “غير فاعِلة بشكلٍ خاص عندما يتعلّق الأمر بالإفصاح عن مطالب مُحدَّدة تكشف عن فوارِق دقيقة في ما بينها في عملية التفاوض التالية”.
ما بدأ عام 2010 مع محمّد البوعزيزي الذي أشعل “الثورات” العربية بجسده، ينبغي ألا ينتهي من دون أن نتعلّم الدرس.
خليك معنا