كان يمكن أن تكون المحافظات التي يسيطر عليها التحالف السعودي الإماراتي نموذجاً للاستقرار والتنمية، لو أن هدف هاتين الدولتين هو استعادة الدولة اليمنية، لا تقسيمها ووضعها على هذا الحال من الفوضى المطلقة.
يحلو لدولتي التحالف أن تطلق على هذه المحافظات توصيف المحرّرة، وهو توصيف غير مجافٍ للحقيقة في حال ما كان القصد بالتحرير هو الانفلات لانعدام وجود سلطة رسمية واحدة قادرة على اتخاذ قرار يمكن فرضه على الواقع.
أكثر من عامين قضتها محافظات الجنوب ولا زالت شكاوى المواطنين هي نفسها من انعدام الأمن و سيطرة المليشيا وتغوّل النافذين الذين عاثوا في الأرض فساداً ونهباً للأراضي واستيلاء على مبانٍ تابعة للسلطة المحلية، وتنامي لدور التنظيمات المتطرّفة وارتفاع الصوت المناطقي على حساب الانتماء الوطني والمدني، وبالذات في العاصمة التي أُريد لها أن تكون مؤقتة.
ومن محافظات الشمال تبدو تعز مستهدفة بذاك القدر أو أكثر مما حصل ويحصل في عدن، ربما لأنهما يحملان النفَس المدني ذاته، إلا أن ما أصابها من تدمير طال مبناها ومعناها، لا يزال مسكوتاً عنه، ربما لأنها ليست عاصمة، وربما وهو الأصح لأن أغلب رموزها شخصيات إنتهازية وجبانة تفتقر إلى قيمة التضحية بمصالحها وتضحّي عوضاً عنها بأبناء المحافظة البسطاء، فيما هم يتوزعون على فنادق الرياض واسطنبول.
ألم تكن محافظة تعز هي الحاملة لمشعل التنوير السياسي والثقافي والاقتصادي منذ أربعينيات هذا القرن ومنها انطلق الأستاذ أحمد النعمان بمشروعه السياسي التنويري مستفزاً العقول الجامدة التي استكانت للجهل والعبودية والنصوص الجامدة؟
ألم تكن هذه المحافظة هي الحاضنة لمؤسسة صناعية وطنية كبرى كان رائدها ومؤسّسها هو المرحوم هائل سعيد أنعم؟
أليس أبناؤها هم القوة البشرية العاملة والمنتجة التي لا تخلو محافظة أو مدينة من وجودهم الإيجابي؟
إذاً، علامَ يختزل المشوهون النفعيون من سياسيين ومشائخ وحزبيين ما يقارب الـ5 ملايين تعزي ويتاجرون بأوجاعهم ومآسيهم وجوعهم ويلقون بهم إلى محارق الحرب ومهانة الجوع وذل الحاجة فيما هم مع أسَرِهم يعانون التخمة ثم لا يستحون إذ يلتقطون صوراً وهم في قمة أناقتهم من مطارات الدول التي يتسكعون فيها؟
الوجوه التي هي ظاهرة وتقود الصراع اليوم في تعز وعليها، كلها بلا استثناء، لا تحمل سوى مشاريع متخلفة أو متطرّفة، أبعد ما تكون عن المدنية والحرية، ولهذا طفى على سطح المدينة أعفن نتاج تفكير هؤلاء، سحل وتمثيل بالأموات ونبش للقبور وهدم للقباب واستدعاء للعصبيات.
ثم حين تتحرّر عدد من الحارات والشوارع، يقاتل هؤلاء بعضهم بعضاً للسيطرة عليها، في جشع لم يعد مستساغاً في حال وصل فيه الناس إلى حد يعد يملكون غير الفاقة.
سوق واحد هو سوق القات وشارع واحد هو شارع جمال الذي لم يزل فيه بقايا نبض من حياة، لكن العشرات قتلوا وأصيبوا في معارك السيطرة عليه، وصار الناس مخيّرون بين مشاريع لا تمثل ثقافتهم مثلما لا تحمل الحد الأدنى من طموحهم بل هي أكثر من ذلك مشاريع موت وجمود واستبداد.
في تعز ألوية عسكرية متعدّدة الولاءات والانتماءات الحزبية، وفيها محافظ غير قادر على البقاء في محافظته، فيما لا يأتي ذكره إلا مقترناً بفضائح سرقة مرتبات مَن يقاتلون في الميدان ،فيما يركب هو سيارته المدرّعة حين يهرب بها عائدا الى الرياض .
في تعز أيضاً ميليشيات لمشائخ وحزبيين صغار ترك لهم قادتهم مهمة حجز نفوذهم تحسباً لعودة مظفّرة يتقاسمون فيها ما تبقى من أطلال المحافظة .
في محيط تعز من لايزال أيضاً يعتقد أنه قادر على حكم الخرائب وأشلاء البشر وناس لم يعودوا يمتلكون إلا كراهية مطلقة لكل من تسبّب بأذيتهم.
هؤلاء لا زالوا يتحكمون بمنصة إطلاق القذائف ليخربوا الخرائب داخل المدينة المنكوبة بحكم مرتزقة، والموصومة ظلماً بعار القتال في سبيل استعادة شرعية أحَطّ مَن حكم اليمن، ولصالح دولة تقاتل لاحتلال المنفذ البحري للمحافظة.
وفي الأخير، لا زال هناك بقية أمل ممن لم تلوّث أيديهم بالدماء ولم يشاركوا في المتاجرة بتعز وأبنائها من تجار ومثقفين ووجهاء، كي يجتمعوا على كلمة سواء لإنقاذ محافظتهم، إن بقى لديهم خشية من لعنة تاريخ لا ينسى.