منذ أن وضعت الإمارات يدها على مدن الجنوب اليمني، وسرحت ومرحت بثرواته وغلاله، واستعبدت مرتزقة الأمس ليصبحوا عبيد اليوم، شرعت في تأسيس ميليشيات خاصة بها اسمتها “الحزام الأمني”، وهي وحدات عسكرية في عدن على نحو عالي من الجهوزية تدريبا وتسليحا، قوامها أكثر من عشرة آلاف مقاتل، غير أنها لم تتولى أمر القيادة بشكل مباشر، بل أوكلت قيادتها إلى الشيخ السلفي هاني بن بريك، الذي أعلن الحرب على كل الحركات الدينية في الجنوب، والتي تختلف مع المدرسة السلفية التي يقودها فكرياً، وتغذيها الإمارات، وأبرزها جماعة “الإخوان المسلمين”، المكون الفكري لحزب الإصلاح. وتجلى ذلك عندما وجّه بن بريك اتهامات إلى المساجد التي تخضع لحزب الإصلاح بـ”إنتاج الإرهابيين”. لكن دولة الإمارات لم تقف عند هذا الحد، فهي تعلم حقد الإصلاح الدفين على سياساتها، وهي نفسها تبادله حقدا أشد. عندها كان لا بد من إنتاج مسلسل التصفيات لأهم خطباء تلك المساجد وأئمتها. فكانت البداية واضحة وجلية عندما اغتيل إمام جامع بعد خطبة حذر فيها من “تنفيذ الأجندة الخارجية التي تسعى إلى جرّ عدن للفوضى والصراع” في إشارة إلى الإمارات، بعدها اغتيل مسؤول “مركز الفيوش” بعد رفضه إصدار فتوى تجيز “الانخراط في القتال ضد مقاتلي حركة أنصار الله”. ونُفذت عمليات اغتيال أخرى طالت كلاً من صالح بن حليس، وياسر الحمومي، وعلي عثمان، وجرت تصفية إمام “جامع زايد” الشيخ ياسين العدني، الذي أرسل عدة رسائل، تضمنت “مناصحة” للشيخ بن بريك، تحثّه على “الرجوع إلى منهج السلفية، وترك تجييش الشباب للقتال ضمن القوات التي تدعمها الإمارات”.
إستهداف تفريخات الإخوان
تعدّدت أساليب التنكيل بالقيادات الدينية في الجنوب، بين النفي والسجن والاغتيال، وقيادات حزب الإصلاح لا تحرك ساكنا بعد أن اصبحت دمى بأيدي العدوان، حتى طال الاستهداف الإماراتي غير المباشر مقراتهم واماكن تجمعاتهم وسكن قياداتهم. ومنذ دخول العدوان الذي تقوده السعودية في اليمن، وتوكيل الإمارات بمهمة إدارة الجنوب، أُخرِج عدد من المشائخ والرموز الدينية إلى المملكة السعودية بين الترغيب والترهيب، ووضعتهم تحت الإقامة ومنعتهم من السفر، ومنهم: رئيس الهيئة الشرعية والإفتاء الجنوبية الشيخ حسين بن شعيب، ورئيس جمعية الحكمة الخيرية الشيخ عمّار بن ناشر، ونائبه الشيخ جمال البكري، وخطيب جامع الصديق الشيخ أنور دحلان، ونفّذت حملة اعتقالات طالت مشائخ آخرين، منهم: رئيس جمعية الإحسان الشيخ عبد الله اليزيدي، ومدير مؤسسة الرحمة الخيرية الشيخ أحمد بن رعود، إضافة إلى الشيخ محمود البيضاني، والشيخ عادل الحسني، والشيخ ياسر القدس.
حاولت القوات المحليّة المدعومة من الإمارات تصفية الساحة الجنوبية من تلك المدارس السلفية، التي توصف بـ “السلفية السياسية”، أو “الحركية”، والتي تؤيد الدخول والمشاركة في الحكم عبر تأسيس أحزاب إسلامية، كحزب التجمع اليمني للإصلاح، أو حزب الرشاد السلفي. إلا أنّ إخراج تلك الحركات يأتي لمصلحة السلفية التي ترعاها الإمارات في اليمن، والتي لا تؤمن بالعمل السياسي، وتتعامل مع رئيس البلد كـوليّ أمر تجبُ طاعته.
الإصلاح هدف إماراتي مشروع
لم تخل الساحة الجنوبية بعد من القيادات الدينية المناوئة للإمارات، ولذلك ترى أبو ظبي أن الأمر بات ملحا للبدء بتصفية قيادات حزب الإصلاح لتنفرد بالساحة الجنوبية دون منازع. ورغم الاتفاق بين حزب التجمع اليمني للإصلاح والإمارات عقب اللقاء الأخير الذي جمع ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد ورئيس الحزب محمد اليدومي، على توحيد الصفوف وتكريس الجهود لمواجهة أنصار الله، إلا أن عمليات الاغتيال لم تتوقف. ولم تستطع الأجهزة الأمنية وقف مسلسل عملية الاغتيالات التي تطال أئمة المساجد في عدن، كما لم تفصح عن الجهات التي تقف وراء هذه الاغتيالات رغم إلقاء القبض على بعض منفذيها، وهو ما يؤكد ضلوع أجندة الإمارات في سيناريو التصفيات. ويذكر أيضا أن قوات الحزام الأمني الموالي للإمارات هددت في وقت سابق بتصفية قيادات في حزب الإصلاح اليمني بسبب آرائها المناهضة لسياسة الإمارات في الجنوب اليمني.
من يقف وراء التصفيات
تعد عملية الاغتيالات جريمة سياسية مكتملة الأركان، وهذا يعني أن الدوافع لم تكن يوما شخصية أو جنائية على الإطلاق، بل هي عمل سياسي منظم بإحتراف من جهات نافذة، على اعتبار أن عمليات كهذه بحاجة إلى شبكات أمنية معقدة لها أدوار متعددة بدء من عملية الرصد والمتابعة للمستهدف، مرورا بمرحلة إعداد المنفذين وأدوات الجريمة، وانتهاء بالتمويه والاختفاء من مسرح الجريمة، ناهيك عن الأهداف والدوافع، والإستثمار السياسي لها. وبالتأكيد أن مثل هذه الإمور التقنية واللوجستية ليست في متناول فرد أو جماعة أو حتى ميليشيا، بل في متناول نظام يتحكم في هذه الأدوات، ويعرف كل شاردة وواردة عن تفاصيل الخريطة السياسية والجغرافية والأمنية، ومثل هذه المقومات لا تمتلكها إلا الإمارات وأجندتها في عدن. ولا يمكننا إغفال أن مايحدث في الجنوب ليس بمعزل عن السياق العام للمشهد السياسي في الجنوب، والصراع القائم بين الأطراف المختلفة ومشاريعها السياسية، خصوصا وان حالة الصراع قاربت على النهاية بعد كشف أقنعة الأحداث الأخيرة.
لا مستفيد سوى العدوان
تتركّز اهتمامات قيادة تحالف العدوان بملفات وأجندة خاصة تشكّل أولوية عند دولة الإمارات تحديداً، وفي الحسابات السريعة للخسائر والأرباح في ظلّ زحمة الأجندات الخاصة، يبدو أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو تلك الجماعات التي اندفعت للقتال في صف حكومة الفنادق، والتي كانت قيادة تحالف العدوان في بداية الحرب قد وجّهت الدعم العسكري والمالي لها بشكل مباشر، خصوصاً الجماعات الدينية من تيار السلفيين والإخوان المسلمين، على حساب بناء جيش يمني حقيقي. اليوم تتم تصفية هذه الجماعات وعلى رأسها الإصلاح الذي بات يخسر يوميا أبرز قياداته في عدن وباقي محافظات الجنوب.
خليك معنا